هل تشكل قمة موسكو الثلاثية أرضية لحل الأزمة الأوكرانية؟!

جملة قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إحدى المقابلات، تفسر إلى حد كبير أسرار الهجمة الإعلامية الأمريكية والغربية ضده، والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا الاتحادية. لقد قال: (انتُخبت رئيساً لروسيا كي أقدم لها خدماتي، لا كي أكون لطيفاً مع أوباما)، وهي تعكس في الوقت نفسه لا مبالاته إزاء هذه الهجمات والعقوبات، وتفسر كذلك شعبية بوتين الآخذة في النمو السريع داخل روسيا نفسها، إذ تخطت الـ80% حالياً، ومن الصعب أن يتخيل أحد في هذه الأيام رئيس دولة في العالم يضاهي في شعبيته الرئيس فلاديمير بوتين.

وبطبيعة الحال إن وجود رئيس قوي يحظى بمثل هذه الشعبية الواسعة، يعني أن الدولة التي يقودها قوية وتشكل رقماً صعباً في المعادلات الدولية، وهذا ما ينسحب على روسيا في شتى الملفات العالمية التي طغت على العام الماضي ولاتزال مستمرة حتى الآن.

وسنتناول هنا الملف الأوكراني، خاصة على ضوء القمة الثلاثية التي انعقدت يوم الجمعة 6 شباط 2015 في الكرملين.

قبل هذه القمة، وعلى وقع تصاعد الهجمة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية الأزمة في شرق وجنوب أوكرانيا، عُقدت القمة الفرنسية الألمانية الأوكرانية في كييف، لبحث وتسويق مبادرة من أجل حل هذه الأزمة. وحسبما أفاد متحدث باسم الرئاسة الأوكرانية، جرت القمة وراء أبواب مغلقة في بداية الأمر، ثم توسعت بحضور أطراف أخرى، ومن دون الإدلاء بأية تصريحات صحافية في ختامها.

القمة الثلاثية بين ميركل وهولاند والرئيس الروسي بوتين، انعقدت في الكرملين بموسكو، ونقلت بعض وسائل الإعلام أن ما يسمى (مبادرة ميركل وهولاند) قامت على الأسس التالية:

– تكرار سيناريو النزاعات المجمدة (كترانستيستريا) المنفصلة عن (مولدوفا).

– إمكانية تجميد النزاع في أوكرانيا، ومنح (دونيتسك ولوغانسك) استقلالية محدودة.

– إمكانية نشر قوات حفظ سلام في منطقة النزاع بأوكرانيا.

وبعد خمس ساعات من المناقشات، أعلن متحدث باسم الكرملين أنه تم التوصل إلى اتفاق لوضع خطة سلام مشتركة.

وعلى هامش هذه القمة، نفى المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف ما تناقلته بعض وسائل الإعلام الغربية، حول توجيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إنذاراً إلى الرئيس بوتين، هددت فيه بفرض مزيد من العقوبات على شركات وشخصيات روسية في حال رفض موسكو مشروع (خريطة طريق) لتسوية الأزمة الأوكرانية في قمة مينسك.

وأضافت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية التي نقلت هذا النبأ، أن ميركل قالت أيضاً إن برلين لن تعارض خطة واشنطن لتزويد أوكرانيا بالسلاح الفتاك في حال رفض روسيا خطة السلام، مؤكدة أن النزاع في شرق أوكرانيا أوقع 5300 قتيلاً على الأقل في غضون عشرة أشهر.

إذاً.. نفى المتحدث باسم الكرملين مثل هذه الأنباء التي نقلتها الصحيفة الأمريكية عن مصادر دبلوماسية غربية، وأكد (أن لا أحد يمكن أن يخاطب رئيس روسيا بلغة الإنذارات). جدير بالذكر أن مبادرات عديدة أطلقها الرئيس بوتين خلال مكالمات هاتفية أجراها قبل قمة موسكو مع كل من ميركل وهولاند وبوروشينكو، ساهمت في التمهيد لهذه القمة، منها على سبيل المثال اقتراح سحب فوري للمدفعية الثقيلة من خطوط التماس في جنوب وشرق أوكرانيا، الذي وجهه لنظيره الأوكراني في 15 كانون الثاني الماضي، وكان من شأن هذا الاقتراح أن يسمح بتجنب إراقة الدماء التي شهدتها منطقة النزاع في أوكرانيا في الأيام الأخيرة.

وفي الآونة الأخيرة ازدادت الاستفزازات الغربية لموسكو، منها إعلان الأمين العام لحلف الأطلسي أن الحلف سينشر قوات تدخله ومراكز قياداته في 6 دول في شرق أوربا رداً على ما أسماه بالتحديات على الاتجاهات كافة. وسبق ذلك اجتماع لوزراء دفاع الحلف في 5/2/2015 أكد فيه ضرورة قيام الحلف بتعزيز إمكاناته العسكرية، وضرورة أن يصل تعداد قوات التدخل التابعة للحلف إلى 30 ألف رجل.

وفي إطار الرد على هذه الخطوات الغربية الأطلسي، وقّع الرئيس الروسي بوتين يوم الخميس 5/2/2015 مرسوماً يقضي باستدعاء قوات الاحتياط إلى معسكرات التدريب، كما ترأس جلسة استثنائية لمجلس الأمن القومي الروسي، وهذا كله جاء منسجماً مع العقيدة العسكرية الروسية التي وقّع عليها الرئيس بوتين مؤخراً.

كل هذا يشكل رسالة واضحة من روسيا بأنه في حال ذهاب الولايات المتحدة باتجاه التصعيد، فإن روسيا لديها الأدوات والوسائل لمواجهة هذا التحدي وإفشاله.

لقد كان الرئيس الروسي واضحاً وحازماً في الوقت نفسه، حين قال في كلمة ألقاها أمام مندوبي المؤتمر التاسع لاتحاد النقابات الروسي في سوتشي مؤخراً: (إن روسيا لا تقبل بنظام عالمي يقوده زعيم واحد، يفعل ما يريد والآخرون لا يستطيعون القيام بأي شيء إلا بما يسمح هذا الزعيم، وإن كان أحد ما يريد أن نعيش في ظروف شبه احتلال، فنحن لن نفعل ذلك).

وفي أعقاب القمة الثلاثية في موسكو بين بوتين وميركل وهولاند، قال الرئيس بوتين لصحيفة (الأهرام) المصرية يوم 9/2/2015 (إنه لا تسوية للأزمة في أوكرانيا دون أن يتوافق الأوكرانيون فيما بينهم)، مؤكداً أن روسيا تدعم بثبات التسوية الشاملة والسلمية فقط للأزمة الأوكرانية على أساس اتفاقية (مينسك)، مشيراً إلى أن أهم شروط إعادة الاستقرار للأوضاع هو (الوقف الفوري لإطلاق النار، ووضع حد لما يسمى عملية محاربة الإرهاب في جنوب شرق أوكرانيا، وهي في الحقيقة عملية تنكيلية).

وهنا من الأهمية بمكان أن نشير إلى ما قاله جون مير شيمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأمريكية، في مقالة له تحت عنوان (أوقفوا تسليح أوكرانيا).. موجز ما جاء في المقالة: (يبدو أن روسيا بصدد الفوز في الأزمة الأوكرانية، إذ إن المقاتلين في شرق أوكرانيا يحققون مكاسب ميدانية، والرئيس بوتين لا يمكن أن يتراجع. وفي هذا الإطار دعت بعض مراكز الأبحاث الأمريكية إلى إرسال أسلحة متطورة إلى كييف، إلا أن هذه الدعوة خاطئة، فإرسال الأسلحة سيؤدي إلى تصعيد القتال، والجيش الأوكراني أضعف تسليحاً من خصومه، ثم إن روسيا ستقوم بتصعيد مضاد مُبطلة أي فائدة من الأسلحة الأمريكية المرسلة، وبالتالي فستكون واشنطن هي الخاسرة). كما تدحض المقالة حجة مؤيدي إرسال الأسلحة إلى كييف بأنها سترهق موسكو وتدفع بوتين إلى الاستسلام، بقوله: إن الروس لن يتراجعوا حتى لو تكبدوا أعباء وخسائر كبيرة دفاعاً عن مصالحهم الاستراتيجية.

وتختتم المقالة باقتراح السعي لجعل أوكرانيا (دولة محايدة) مثل النمسا، وسحب مسألة توسيع الاتحاد الأوربي والناتو عن الطاولة، وأنه آن الأوان لإنهاء تلك السياسات المتهورة قبل وقوع مزيد من الخسائر لأوكرانيا وللعلاقات بين روسيا والغرب.

إذاً، حتى داخل أمريكا هناك أصوات غير راضية عن هذا التصعيد الأمريكي، إلى جانب أن ألمانيا رفضت تسليح نظام كييف كما أشرنا قبل قليل، ودعت إلى حل سلمي تقبل به جميع الأطراف، كذلك هناك تردد في الموقف الفرنسي تجاه الدعوة الأمريكية للتصعيد ضد روسيا.

ختاماً.. يرى معظم المحللين السياسيين الغربيين أن محاولات واشنطن خلق أزمة مصيرية ضد روسيا في أوكرانيا لن تنجح، ولن تكون إلا مثل حروبها السابقة الفاشلة في فيتنام والعراق، ثم في حربها على الإرهاب التي تدّعي أنها تخوضها منذ عام 2001.

العدد 1105 - 01/5/2024