فنزويلا.. من بوليفار إلى تشافيز ومادورو

فنزويلا العضو الرئيس في منظمة أوبك، وخامس دولة مصدرة للنفط في العالم، وهي في دائرة الأطماع الأمريكية دائماً. تقع شمال أمريكا الجنوبية، مساحتها 912050 كم2 وعدد سكانها 29 مليون نسمة، بينهم نحو 4 ملايين من أصول عربية، يحدها من الشمال البحر الكارييبي، ومن الغرب كولومبيا، ومن الجنوب البرازيل، ومن الشرق المحيط الأطلسي، وهي صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم بنحو 297 مليار برميل (ما يفوق احتياطي السعودية)، بعد اكتشاف الاحتياطات الجديدة عام 2010 في حقل (حزام أورنيكو) الشاسع، كما تملك 5% من احتياط الغاز العالمي. والشعب الفنزويلي من الشعوب المناهضة للإمبريالية الأمريكية ومحاولاتها تخدير الشعوب ودغدغة أحلامها بالديمقراطية على الطريقة الأمريكية، بغية إعادة السيطرة على حديقتها الخلفية، وهو يدافع عن حقه في إدارة موارده الطبيعية بشكل سيادي ويعمل لإجهاض سياسة الهيمنة الأمريكية على القارة الرمادية من خلال جمع جميع دول أمريكا الجنوبية على اختلاف توجهاتها ومنهجها الاقتصادي من اليمين إلى اليسار ضمن تجمع (الأوناسور) لتنشكيل منظومة الشعوب الأمريكية اللاتينية المؤلفة من 360 مليون نسمة.

أحفاد بوليفار وصلوا إلى السلطة بالطرق الانتخابية السلمية، على خلاف كل الثورات السابقة التي اتصفت بالعنف، مستلهمين أفكار محررين بارزين ونضالاتهم، أمثال سيمون بوليفار، الذي ابتدأت ثورته ضد السيطرة الإسبانية في أمريكا اللاتينية، في عام1811. في كانون الأول عام 1998 انتخب الجنرال هوغو تشافيز، ابن ولاية باريناس رئيساً لفنزويلا، وأزعج واشنطن بإقامة علاقات شخصية حميمة مع فيدل كاسترو، وحاول تحرير بلاده من الاعتماد على الإيرادات النفطية التي تمثل 90% من مواردها من العملات الصعبة.. وتنويع مصادر الدخل الوطني عن طريق النشاط الاقتصادي وتدابير التأميم والاستملاك، وتطوير الزراعة والصناعة واستثمار الطاقة النووية للأغراض السلمية بالتعاون مع روسيا وإيران والبرازيل والأرجنتين، واللحاق بركب غزو الفضاء بالتعاون مع الصين.

هوغو تشافيز مناضل عالمي تاريخي يعتبر سيمون بوليفار بمنزلة الأب الروحي له والنور الثوري الذي أضاء له عتمة الطريق، خاض أشرس المعارك مع قوى الإمبريالية في عهده الذي امتد 14 عاماً، انتقلت فنزويلا خلالها من حال إلى حال، وقام بتأميم صناعة البترول والحديد، ما أثار غضب الولايات المتحدة وتهديدها بالعدوان، وأدار بذكاء ثروة بلاده النفطية الهائلة واستغلها لإقامة مشاريع اجتماعية موسعة يعود ريعها على الشعب، فتراجع معدل الفقر إلى أدنى المستويات، واتسمت حملة مكافحة الأمية وشمل نظام الرعاية الصحية 80% من سكان البلاد، وفي عهده ساعدت فنزويلا كوبا على تجاوز العزل وكسر الحصار الذي فرضته أمريكا على كوبا الثورية، وأمّن محور فنزويلا- كوبا المناخ الملائم لعودة الساندينيين بقيادة دانييل أورتيغا إلى السلطة في نيكاراغوا ليتشكل  في منطقة الكارييبي درع جيو- استراتيجي يقف بصلابة في وجه الأطماع الأمريكية.

تخطى نهج تشافيز في الثورة والسياسة والمقاومة والصمود حدود فنزويلا وأمريكا اللاتينية، وصولاً إلى درجة من القوة والمصداقية أعجزت الغرب وزعيمته الولايات المتحدة، فقد أقام علاقات استراتيجية مع كوبا، ونووية سلمية مع روسيا، وأشهر السلاح الروسي والإيراني في وجه واشنطن، وجعل من فنزويلا دولة فضائية تملك قمرين صناعيين من صنع صيني، وصدقت نبوءته حول روسيا، فقد كان ينظر إليها كأحد أقطاب العالم الذي يجب أن يكون متعدد الأقطاب، وقد توترت العلاقات الفنزويلية – الأمريكية منذ وصوله إلى السلطة، ولم تتوقف المحاولات الأمريكية للإطاحة به وبنظامه الاشتراكي الذي بذر بذوره في أغلب دول القارة اللاتينية، واتهمته واشنطن باستخدام عائدات النفط الفنزويلي لتأسيس مجموعات مناوئة للديمقراطية في جنوب القارة الأمريكية، وفي 12 نيسان 2002 فشل انقلاب جورج بوش الابن الشائن للإطاحة بالثائر الأممي المقاوم ونصير المستضعفين هوغو تشافيز، عندما نظمت وكالة المخابرات المركزية بالتعاون مع عملائها في الداخل انقلاباً مسلحاً قاده بيدرو كارمونا، رئيس اتحاد رجال الأعمال الذي دام حكمه ليوم واحد بالتعاون مع رئيس أركان الجيش الفنزويلي الفريق فاسكيز فيلاسكو، وقائد القوات الجوية الجنرال بيدرو بيريرا، وقائد القوات البحرية الأميرال هيكتور راميرز بيريز، وعاد المناضل تشافيز إلى القصر الرئاسي محمولاً على أكتاف الفقراء في ثورة شعبية عارمة.

التدخل الأمريكي في شؤون القارة اللاتينية لا ينتهي، وقد أثبت تورط المسؤولين الأمريكيين في تنفيذ اغتيالات وانقلابات لتغيير رؤساء ودول، وتنصيب آخرين خدمة لمصالحها، والمعارضون الفنزويليون والكوبيون والإرهابيون المرتزقة يتدربون داخل الولايات المتحدة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا في المعسكر الإرهابي (أف -4)، وفي أيار 2014 عملوا على بث الشائعات في صفوف الجيش الفنزيلي لخلق الفتنة والانقسام داخله بهدف الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو ونظامه الاشتراكي، وأثبتت الوثائق تورط السفير الأمريكي في كولومبيا (كيفين وبنيكير)، والمندوب الفنزيلي السابق في الأمم المتحدة (دييغو آريا) والأستاذ بجامعة فنزويلا المركزية (غوستافو تاري)، والحاكم السابق لولاية كارابوبو (أنديريك سالاس) والمعارضة الفنزويلية ماريا ماتشادو لتنفيذ مخطط يرمي لاغتيال الرئيس مادورو وزعزعة الاستقرار وتنفيذ الانقلاب.

نيكولاس مادورو، 51 عاماً، سائق الشاحنة والموظف البسيط والنقابي والنائب في البرلمان، ورئيس البرلمان، ووزير الخارجية، ثم نائب تشافيز بعد استفحال مرضه، ثم أصبح رئيساً لفنزويلا بعد رحيل تشافيز، مناضل نقابي انطلق من صفوف الطبقة الكادحة يدافع عن حقوق العمال محاولاً إنصافهم وتحقيق العدالة والمساواة لهم، ينتمي للجناح المعتدل في الحزب الاشتراكي الموحد.. التقى مع تشافيز في بدايات نضاله في إطار الحركة القومية التي أنشأها تشافيز، ورأى فيه أحد القادة الشباب الذين يتمتعون بأفضل الكفاءات، وهو الآن يواصل نهج تشافيز ويحرص على إرثه النضالي، وفي حكومته حافظ على معظم المسؤولين السابقين الذين عملوا مع الرئيس الراحل، ومؤخراً أعلن مادورو للشعب الفنزويلي والعالم عن إحباط محاولة انقلابية مدعومة من واشنطن تضمنت مخططاً لزعزعة الاستقرار واستهداف الديمقراطية في البلاد، وإلقاء القبض على بعض المتورطين في المحاولة التي كانت ستتضمن غارات جوية تقوم بها طائرات من طراز (توكانو) تحمل العلم الفنزويلي، على القصر الرئاسي وغيره من الأهداف الهامة، بتمويل وإدارة من وكالة المخابرات المركزية والموساد الإسرائيلي، وقد تسببت بمقتل عشرات الأبرياء ودماراً كبيراً للبنية التحتية.

الرئيس الراحل تشافيز كان صادقاً في صداقته لسورية التي زارها عامي 2006 و2009 وأعلن منذ بداية الأحداث فيها أنها مؤامرة إمبريالية ضخمة ضد آخر القلاع الحرة في المنطقة، وبسقوطها ستسقط كل المنطقة مجدداً في براثن الإمبريالية. وكان تشافيز المدافع الشرس عن القضايا والحقوق العربية، قال عن إسرائيل: (ينبغي جر إسرائيل ومعها الولايات المتحدة إلى المحاكم الدولية، لو كان لهذا العالم ضمير حي، يقولون إن الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز شخص نبيل يدافع عن شعبه! أي عالم عبثي هذا الذي نعيش فيه؟! لن أقول إن إسرائيل تنوي شن حرب إبادة، إنها تقوم بذلك بالفعل).

الشعب الفنزويلي أحب تشافيز واعتبر رحيله خسارة لفنزويلا بشكل خاص، وللعالم الاشتراكي بشكل عام، الثائر الذي قهر أمريكا وقهر مرض (سرطان الحوض) الذي دسّته له وكالة المخابرات المركزية، وأودت به مطلع نيسان 2013 وقد أطلق محبوه على ضريحه لقب (ضريح القديس هوغو تشافيز، زعيم الاشتراكية في أمريكا اللاتينية).

العدد 1105 - 01/5/2024