العمالة المنزلية.. أما من ضوابط تحكمها؟

بستاني.. ممرض.. سائق خاص.. طباخ.. مدبرة منزل.. خادمة.. حارس.. أعمال ومهن مختلفة يزاولها البعض في منازل الآخرين، لا قوانين تحكمها ولا نقابات ينتسب إليها هؤلاء لتتولى تحقيق مطالبهم.

العمل المنزلي ظاهرة ليست بجديدة على السوريين، امتهنته فئة من الناس، نتيجة لظروف معينة، قد تكون الحالة المادية الصعبة وربما المستوى التعليمي المنخفض. فهي لا تحتاج إلى شهادة علمية ولا خبرة مهنية.

العمالة الأجنبية الوافدة، ربما زاحمت العمالة السورية لفترة معينة، انتهت مع مغادرة هؤلاء الأجانب البلاد نتيجة الظروف الراهنة، لكنها ارتبطت بالكثير من التعقيدات، خصوصاً مكاتب الاستقدام أو السمسرة وتذاكر الطيران وغيرها. هذا ما ميّز العمالة السورية، فهي لا تحتاج إلى كل هذا العناء، لا مكاتب ولا مبلغ تأمين يدفع مقدماً، والعامل سوري لا يحتاج لا فيزا ولا تذكرة طيران، وستصل إليه خلال جولة إلى إحدى الحدائق أو الأرصفة التي يعتبرها الباحثون عن عمل مقراً لهم بهدف الحصول على لقمة العيش. وأحياناً يكفي أن تخبر أحد الأصدقاء أنك تحتاج إلى من يقوم بالأعمال المنزلية، لينتشر الخبر بين المعارف وتعثر على المطلوب.

نهى (موظفة) تقيم لديها والدتها المريضة، تبحث حالياً عن ممرضة لرعاية شؤون الوالدة، تقول نهى: (أنا موظفة، أعود إلى بيتي الساعة خمسة المسا بأحسن الأحوال، بسبب المواصلات السيئة، عم تبقى أمي لحالها بالنهار لوقت اللي بيجو الولاد من المدرسة.. أمي ما بتحب تقعد عند حدا من إخواتي الشباب، لأنو ما بترتاح عند نسوانهن، وأنا ما بقدر أترك وظيفتي وأبقى عندها، لهيك بلشت دوّر على ممرضة أو مقيمة تبقى عندها وتدير بالها عليها بالنهار، حطيت خبر عند أكتر من حدا وناطرة..).

لا تقاعد ولا ضمانات!

إذا كان معظم العاملين في مختلف المهن يحظون بحقوق معينة نصت عليها قوانين وتشريعات، فإن العمل المنزلي لا يحميه ولا يضبطه أي قانون. لا تقاعد، لا مبكر ولا غير مبكر، ولا راتب تقاعدي ولا أي ضمانات تحمي العامل أو تضمن حقوقه.. تفاصيل العمل كلها تعاقد شفهي فردي بين صاحب العمل والعامل لا يمنح العامل بموجبه أي راتب تقاعدي، وكل ما يحصل عليه هو مبلغ معين بعد الاتفاق بين الطرفين.

أبو حسن كان يعمل سائقاً لدى إحدى العائلات منذ أكثر من عشرين عاماً، وبعد أن توفي صاحب المنزل استغنى عنه أولاده.. يروي لنا بحرقة: (عشرين سنة ما كانت بتكفي لحتى ضل اشتغل عندن.. يمكن كبرت بالعمر، بس ولله يا عمي لو إني عم أشتغل عند الدولة كان طلعلي راتب تقاعدي.. عم أشتغل ع تكسي هلأ وبيعين لله، الحمد لله مستورة).

لم يكن أبو حسن الوحيد الذي لم تشفع له عشرة العمر لإبقائه في عمله أو لمنحه ضمانات، فأم أحمد أيضاً لم يكن تعوّد أهل البيت عليها ضمانة لئلا تفقد عملها بعد سفرهم. أم أحمد، السيدة الأربعينية كانت مدبرة منزل لدى إحدى الأسر المرموقة في دمشق، وبعد أن غادروا البلد إلى إحدى دول الخليج نتيجة الظروف الراهنة، بقيت دون عمل لفترة من الزمن.. تعمل حالياً في شطف الأدراج.. تقول أم أحمد: (ربيت الولاد كأنن ولادي، وكبروا وتعودت عليهن كتير.. كنت حس حالي وحدة من هالعيلة، وأعرف كل تفاصيل البيت اللي ما بتعرفها الأم اللي كانت مشغولة بالاستقبالات والضيوف، لما قرروا يتركوا البلد ويسافروا حرقولي قلبي والله، وخصوصاً إني ما بقدر سافر معهن ولا أترك ولادي وعيلتي.. قعدت فترة بلا شغل، بعدين صرت أشتغل بشطف الأدراج).

الفتيات العاملات.. من يحميهن من الذئاب البشرية؟!

ليس من السهل أن تعمل فتاة – خاصة إن كانت صغيرة في السن – في منزل غريب، عليها ربما أن تكون قوية كفاية لحماية نفسها من أصحاب العمل السيئين الذين لا رادع لهم عن إيذاء الفتيات إرضاء لغاياتهم، خصوصاً مع افتقاد العمل المنزلي لأي نص يحمي هؤلاء العاملات ويضمن سلامتهن.. فالحاجة إلى تأمين لقمة العيش تضطر النساء والفتيات إلى العمل، وعليهن حماية أنفسهن بأنفسهن فقط.

(م. و) ابنة الحادية والعشرين، التي تعمل في أحد معامل الملابس الصوفية (التريكو)، تروي بحرقة وحزن تجربتها المريرة في العمل في منازل الآخرين قبل أن تزاول مهنتها الحالية تقول: (توفى أبي لما كان عمري 14 سنة، وصارت أمي تشتغل بتنظيف البيوت مشان نعيش، وبعد فترة تركت المدرسة وصرت روح معها، لأنو أنا الكبيرة وما عندي إخوات شباب يصرفوا علينا، وببيت من البيوت اللي كنا نشتغل فيها، كان صاحب البيت مو مريح أبداً، وكان يطّلع عليي بنظرات غريبة كانت تخوفني.. ومرة من المرات طلبوا من أمي تخليني عند الولاد لأنن عندن سهرة، وافقت أمي وضليت عند الولاد، ناموا وبقيت لحالي، وفجأة بيرجع عالبيت، قال لأنو نسيان غرض، بيقرب مني وبحاول يتصرف معي بطريقة مو منيحة، ترجّيتو يبعد عني ما كان يقبل، صرت صرّخ وأبكي، قام ضربني وقال لي بترجعي لعند أمك بسرعة وما بقى بتورجوني خلقتكن.. ركبني بتكسي ورحت عالبيت، بكينا كتير أنا وأمي، قالتلي كلو لأنو ما عنا سند يحمينا.. ماعدت اشتغلت عند حدا من وقتها.. وبعد فترة تعلمت شغل التريكو.. الله يغنينا عن ولاد الحرام)!

وأصحاب البيوت.. من يحميهم من ذوي النفوس الضعيفة؟

ليس سهلاً أيضاً أن تعتاد على شخص غريب في منزلك ليشاركك تفاصيل حياتك ويعرف (الشاردة والواردة)، وأحياناً مكان الأشياء في المطبخ التي ربما لا تعرفها أنت تحتاج إلى شخص أمين تأتمنه على ما تملك، وإلا فإنك بغنى عن هذه الراحة التي سيجلبها لك بتأديته لعمله.

( ز.د) موظفة أيضاً لكنها لا ترغب بتكرار تجربة أن يكون هناك من يساعدها في الأعمال المنزلية، تخبرنا بحكايتها: (بحكم عملي ودوامي الطويل، ما بقدر لحّق على كل شغل البيت، إجت وحدة تساعدني بتنظيف البيت، كانت تجي 3 مرات أسبوعياً، بعد فترة اكتشفت إنها كانت عم تسرقني.. واجهتها فأنكرت، وماعاد خليتها تفوت على بيتي لا هيّي ولا غيرها، وصرت ساوي شغل البيت لحالي، بعزّلو أيام العطل وبأيام الدوام بشتغل فيه عالخفيف.. قررت رتّب بيتي لحالي، لا بدي نام بين القبور ولا شوف منامات وحشة).

حل مؤقت ومشكلة البطالة قائمة

الآن، بعد أن فقد الكثير من الناس وظائفهم ومنازلهم وزادت البطالة في مجتمعنا دون وجود إحصاءات دقيقة لمعرفة نسبتها الحقيقية، ازدادت الحاجة إلى هذا النوع من الأعمال، لكنها ليست كافية لتأمين احتياجات الناس نظراً لمردودها المحدود.  فمأمون مثلاً كان يعمل بستانياً في أحد المستشفيات الخاصة في مدينة حلب، وبعد أن اضطرته الظروف لترك مدينته المنكوبة، يقطن الآن في أحد مراكز الإيواء يقول لنا: (ما عندي مشكلة أبداً أشتغل ببيت حدا هلأ، وحطيت خبر عند أكتر من شخص، أي شي هلأ أحسن من القعدة لا شغلة ولا عملة). وسلمى، إحدى النازحات من مدينة إدلب، بدأت البحث عن عمل في دمشق، لكن فرصها في العمل محدودة للغاية، لاسيما أنها لم تكمل تعليمها الثانوي. تقول سلمى: (بعد ما خسرنا كل شي أنا وأهلي، إجينا لهون وقعدنا بمركز الإيواء.. بس مو حالة اللي إحنا فيها، بدي بلش أشتغل ببيوت العالم، ما عندي خيارات أحسن، الشغل مو عيب، المهم يكون بالحلال). يحتاج العمل المنزلي إلى تشريعات تضمن حقوق كلا الطرفين، العامل وصاحب العمل، وتحدد واجبات كليهما أيضاً.. ضمان صحي، راتب تقاعدي،… إلخ، وأن تكون العلاقة بين العامل ورب العمل فقط ووفقاً للقانون، دون اعتماد على السماسرة الذين يستغلون كل الفرص للحصول على الأرباح.

العمالة المنزلية ليست حلاً لمشكلة البطالة، إذ تحتاج بلادنا بالدرجة الأولى إلى مشاريع صناعية وزراعية للحد منها.. هذه المشاريع هي التي تؤمن فرص عمل جديدة لليد العاملة الشابة، وتأخذ بيدها وتستثمر طاقاتها للنهوض بالبلد من جديد. فهل من مجيب؟!

العدد 1105 - 01/5/2024