الجلاء العظيم… الحرية التي تؤخذ ولا تعطى

لم يكن جلاء المستعمرين الفرنسيين عن سورية، الذي أنجز كاملاً في السابع عشر من نيسان 1946 نتاج معادلات إقليمية ودولية بعيد الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بانتصار الحلفاء الغربيين مع الاتحاد السوفييتي حينذاك فحسب، بل كان ثمرة نضال السوريين الذين لم يركنوا إلى واقع الاحتلال منذ أن وطأت جحافله تراب سورية، إذ لاقاهم البطل الوطني يوسف العظمة في ميسلون في معركة خاسرة عسكرياً (تسعة آلاف جندي فرنسي مزودين بأحدث الأسلحة حينذاك، مقابل ثلاثة آلاف متطوع سوري، لا يملكون إلا إرادتهم في المقاومة وبعض السلاح الأبيض)، وقد استمرت المعركة نحو ساعتين، استشهد فيها ما يزيد عن 800 سوري على رأسهم يوسف العظمة.. لكنها كانت درساً تاريخياً في الانتصار، انتصار إرادة السوريين، إذ لم تدخل قوات غورو دمشق بلا مقاومة، وهو ما أراد أن يسجله البطل العظمة للتاريخ والأجيال، وزرعت ميسلون في التراب السوري بذار الثورة والتمرد على الاحتلال والطغيان مهما بلغ من جبروت ومهما دانت له الأصقاع والأزمان.

ولم تهدأ سورية منذ ذلك اليوم حتى خرج آخر جندي غازٍ من أرضها، وتنوعت أشكال المقاومة والثورة، من المقاومة المسلحة عبر الثورات التي شملت جبال الوطن السوري وسهوله، وتوّجت بالثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش، ابن جبل العرب الأشم، إلى المظاهرات والانتفاضات والنضال السياسي والدبلوماسي والثقافي والفكري.

السوريون وحلم الحرية المستمر

لم تهنأ سورية باستقلالها الأول عن الإمبراطورية العثمانية المريضة التي حكمت البلاد أربعة قرون وزرعت الجهل والتخلف والعزلة فيها.. ففي الثامن من آذار عام 1920 أعلن المؤتمر السوري العام سورية دولة مستقلة، وبايع فيصل بن الشريف حسين ملكاً عليها، لكن الفرنسيين والإنكليز كانوا قد أعدوا تقسيم البلاد العربية وباشروا التنفيذ عبر إنذار غورو الشهير (14 تموز 1920)، ثم جاء الرد السوري الرافض، رغم قبول الملك فيصل وحكومة الركابي وتطبيقه لبعض بنود الإنذار، وهي سابقة تشهد على أننا شعب حي، وأن إرث الوطنية والمقاومة ليس متعلقاً بملك أو رئيس، بل هي صفة متأصلة لدى السوريين الذين يحملون تاريخاً موغلاً في الحضارة والرقي والنزوع إلى الحرية.

يمكن القول دون مبالغة إن كل سوري هو ابن أو حفيد لثائر، فقد وحّد الاحتلال السوريين وصهرهم في تيار المقاومة والثورة، وعجز عن دق أسافين الطائفية والمذهبية بينهم رغم محاولاته التقسيمية، فكانت كل قرية ومدينة سورية حكاية بذاتها، بعضها دونها التاريخ والكثير منها بقيت تتناقله الأجيال تراثاً شفهياً للمقاومة والتضحية، من الجنوب الذي لم يهدأ يوماً في وجه الاحتلال إلى الساحل الذي انتفض فلاحوه بقيادة الشيخ صالح العلي، إلى جبل الزاوية حيث استطاع إبراهيم هنانو أن يعبئ الجماهير تحت قيادته ونظم حركة المقاومة ضد الفرنسيين عسكرياً من عام 1920 حتى عام ،1925 وسياسياً حتى عام ،1936 وفي منطقة الجزيرة التي قام سكانها بانتفاضات مشهودة لم تستطع القوات الفرنسية السيطرة عليها رغم حملاتها المتكررة إلا في بداية عام ،1927 وفي دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية هبّ السكان عن بكرة أبيهم لمقاومة نير الاحتلال، رغم أن موازين القوى لم تكن في صالح الشعب المقاوم.

الثورة السورية الكبرى: (الدين لله والوطن للجميع)!

ثم توحدت الجهود وأعلن ثوار سورية وحدة الهدف والمصير عبر الثورة السورية التي انطلقت من جبل العرب بقيادة المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش، واستمرت من تموز عام 1925 إلى عام 1927 وأذاقت المستعمرين الويل في معركة الكفر (23 تموز 1925) حيث أبيدت الحملة الفرنسية عن بكرة أبيها، وكانت فاتحة لمعارك كثيرة مظفرة أبرزها معركة المزرعة (2-3 آب 1925) التي انتصر فيها الثوار، وسقط آلاف الجنود الفرنسيين صرعى، وفرّ قائد الحملة الجنرال ميشو.. ثم توسع نطاق الثورة إلى دمشق وحماة والجولان وجبل الشيخ وجنوب لبنان.

بيان الثورة السورية الكبرى الأول بدأ بعبارة (الدين لله والوطن للجميع)، وتوجه إلى السوريين جميعاً بلغة أرقى بما لا يقاس من لغة كثير من بعض (ثوار) هذه الأيام، يكفي أن نقرأ هذه المقتطفات من البيان:

(أيها السوريون: تذكروا أن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتمدنة الناهضة لن تنالها يد البغي.

لقد نهب المستعمرون أموالنا، واستأثروا بمنافع بلادنا، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير…).

ومن المطالب التي تضمنها البيان: وحدة البلاد السورية واستقلالها التام، قيام حكومة شعبية تجمع المجلس التأسيسي لوضع قانون أساسي ينص على مبدأ سيادة الأمة سيادة مطلقة، سحب القوى المحتلة من البلاد السورية وتأسيس جيش ملي لصيانة الأمن.

بعد عامين من الثورة حُكم على سلطان باشا الأطرش بالإعدام، فلجأ إلى الأردن ثم إلى السعودية، وبقي في المنفى حتى صدور عفو عام بعد اتفاقية عام 1936 مع حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية، وبقي مرجعية وطنية نضالية كبيرة رغم ابتعاده عن العمل السياسي ونفوره من المناصب والصراعات السياسية الداخلية، حتى رحيله في 26 آذار عام 1982 وقد كانت تشييعه مناسبة وطنية كبرى، وما زالت ذكرى هذا القائد الوطني تلهم الوطنيين والمناضلين في كل مكان.

الطريق الطويل إلى الحرية

قدمت فرنسا تنازلات للقيادات الوطنية بعد الثورة ما لبثت أن فرغتها من مضمونها، وبقي النضال الوطني مستمراً، وبعد محاولات عديدة لانتزاع اعتراف فرنسي باستقلال سورية ومماطلة سلطات الانتداب انفجر الغضب السوري وتطور إلى إضراب عام شمل كل المدن السورية عام 1936 استمر ستين يوماً. اضطرت سلطة الانتداب إلى إجراء مفاوضات لعقد معاهدة على أساس الاعتراف بوحدة سورية واستقلالها. وتشكل وفد من الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي سافر إلى باريس لإجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، وضم في عداده الرفيق خالد بكداش. نجحت المفاوضات لعقد مشروع معاهدة عام 1936 بين سورية وفرنسا، وكان أول بنودها استقلال سورية استقلالاً تاماً، وإقامة علاقات سلم وصداقة بين الدولتين.

وتراجعت فرنسا عن مواقفها واتفاقاتها، وسلمت لواء إسكندرون إلى تركيا، واستمر كفاح السوريين بمختلف أشكاله حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية وهزيمة فرنسا بداية أمام الألمان، فعمدت القوات الإنكليزية وقوات فرنسا الحرة للدخول إلى سورية، وانتزاعها من أيدي الفيشيين الموالين لألمانيا، فأعلنت فرنسا استقلال سورية عام 1941 وعينت تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية الذي لم يلبث أن توفي، فانتخب شكري القوتلي رئيساً، وتألفت وزارة برئاسة سعد الله الجابري عام 1943 وفارس الخوري رئيساً لمجلس النواب، فأعلنت الحرب على دول المحور وشاركت في تأسيس جامعة الدول العربية ووضع ميثاقها.

بقيت فرنسا تماطل في تسليم الصلاحيات الخاصة بالجيش مطالبة بامتيازات ثقافية واقتصادية وعسكرية مقابل تسليمها الجيش المتطوع، ورفض السوريون ذلك، فبدأ الفرنسيون بعدوان غادر تضمّن ضرب المدن السورية الرئيسة وعلى رأسها مدينة دمشق بالمدافع، وألقت عليها القنابل من الطائرات، كما قصفت دار المجلس النيابي في دمشق.

وبعد مباحثات بين سلطة الانتداب والحكومة السورية جرى الاتفاق في 22 كانون الأول 1943 على أن تنقل إلى الحكومة السورية الصلاحيات التي تمارسها باسمها السلطات الفرنسية، وأن تنقل إليها كذلك، المصالح المشتركة بما فيها الجمارك، على أن يبدأ تنفيذ الاتفاق من أول كانون الثاني 1944.

وبعد مماطلة وتسويف من الجانب الفرنسي، وفي 4 أيار 1945 أعلنت الحكومة الفرنسية شروط فرنسا للجلاء، كان من أهمها استعداد فرنسا تسليم الجيش السوري إلى الحكومة بشرط، احتفاظ فرنسا بقواعد جوية على الأراضي السورية، وضمان المصالح الاقتصادية والثقافية الفرنسية في سورية.

رفضت الحكومة السورية الشروط الفرنسية، وطالبت بسحب القوات الفرنسية فوراً من الأراضي السورية، وأن يتم تسليم الجيش فوراً للحكومة السورية. على إثر ذلك بدأت القوات الفرنسية المنتشرة في سورية بحملة استفزازية وإرهابية من خلال مباشرة الجنود الفرنسيين باعتداءاتهم على الأهالي، خاصة في محافظات حلب وحماة ودمشق، فأغارت الطائرات الحربية الفرنسية على مدينة حماة وضربت المنشآت المدنية والحكومية وسقط نتيجة ذلك عدد من الشهداء والجرحى.

قصف دمشق

وفي دمشق حاصرت المدرعات الفرنسية في 29 أيار 1945 المجلس النيابي، حيث كانت فيه قوة من الدرك، وطلب قائد القوة الفرنسية من الحامية السورية تحية العلم الفرنسي، فرفض رجال الدرك السوريين وتذرع الفرنسيون بهذا الرفض، وبدؤوا بإطلاق النار على المجلس النيابي وتهديم واجهته، وقتل جميع من كان بداخله من الشرطة والدرك، ومنهم الرفيق طيب شربك، وتعرضت دمشق لقصف مدفعي وهجوم بالقنابل رافقته أعمال النهب والإرهاب استمرت حتى يوم 31 أيار، سقط خلالها 616 شهيداً وبلغ عدد الجرحى حوالي 2072 جريحاً.

وختامها نصر

كان للصمود السوري في هذه المواجهة، دور رئيسي في خلخلة الوضع الفرنسي في سورية والمنطقة بأكملها وتراجعه، وساهم الموقف الدولي والسوفييتي خصوصاً في التعجيل بإنهاء الاحتلال الفرنسي في سورية ولبنان، فقد أظهر الشعب السوري في هذه المواجهة بسالة منقطعة النظير، بإصراره على طرد المستعمر وتصفية قواعده بالكامل.

قررت كل من سورية ولبنان بعد هذه الأحداث، رفع القضية إلى مجلس الأمن، الذي بدأ في 10 شباط 1946 بمناقشة القضية، مع تأكيد المندوبين السوري واللبناني في المجلس على وجوب جلاء القوات البريطانية والفرنسية فوراً عن أراضيهما، وقد وجد هذا الطلب تأييداً من الاتحاد السوفيتي والصين.

وصوّت أعضاء مجلس الأمن في النهاية على جلاء القوات الأجنبية عن سورية ولبنان بأسرع وقت ممكن.

هكذا تحقق الحلم وتحقق هدف نضال الشعب السوري، وأنجز جلاء القوات الفرنسية والبريطانية في 17 نيسان 1946 عيد الجلاء الأغر.

العدد 1105 - 01/5/2024