العلاقات التركية ــ الإيرانية… والمتغيرات

تحكم العلاقات التركية – الإيرانية معادلة حساسة جداً، يحكمها التنافس على النفوذ الإقليمي من جهة، والحرص على المصالح الضخمة المشتركة من جهة ثانية. ففي الحالة الأولى، كثيراً ما يأخذ التنافس مظهر الاشتباك دون أن يتطور إلى مجابهة مباشرة، فالبلدان يتصارعان دائماً عبر حلفاء محليين في كل النزاعات بينهما. ولا تعرف العلاقات الثنائية الكثير من حالات التورط المباشر والمكشوف لأي منهما في الشأن الداخلي للآخر، وإن وجدت، يحرص الطرفان على عدم تعظيمها والحد من تداعياتها… أما في الحالة الثانية، فنرى السعي الدائم إلى تحييد المصالح الاقتصادية والأمنية عن تداعيات هذا الاشتباك على الأمن الداخلي للبلدين. لكن، يبقى إيقاع هذه العلاقة مرتبطاً إلى حد كبير بالتطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة.

هذه العلاقة بدأت تتعرض للاهتزاز الشديد مع تفجر الأوضاع في سورية، ودخول كل من الطرفيين بثقلهما على الأرض. طهران لدعم الحكومة الشرعية في دمشق، وأنقرة لدعم المجموعات المسلحة، إذ قدمت لها كل الدعم اللازم في سبيل إسقاط الحكومة في لدمشق، والذي تحول سريعاً إلى تدمير ممنهج للدولة السورية. لتصل الأمور بينهما في الملف السوري إلى نقطة اللاعودة، حيث أن دمشق هي حجر الزاوية في المشاريع الإقليمية للعاصمتين.

الأزمة السورية جعلت علاقات تركيا السياسية متوترة مع حلفائها قبل أعدائها، وخصوصاً حليفها الأكبر الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي تسعى تركيا فيه حثيثاً لإسقاط الدولة السورية، لا تتمسك واشنطن كثيراً بهذا الموقف لحل الأزمة في سورية. وإذ تؤمن أنقرة أن إقامة مناطق عازلة في سورية وفرض حظر طيران عليها واعتماد الحل العسكري باعتباره ضرورياً لإنهاء النزاع، ترى واشنطن ومعها عدد كبير من الدول الأوربية وروسيا بضرورة الحل السياسي لهذا النزاع الدامي. وإذا أضفنا الدعم غير المحدود الذي قدمته تركيا لجماعة الإخوان في المنطقة بعد ما يسمى (الربيع العربي) والتهديد الجدي الذي شكلته للأمن القومي لدول المنطقة، وخصوصاً بعد وصل حلفائها لسدة الحكم في مصر وتونس، جعل الرياض تلقي يثقلها خلف الجيش المصري الذي نجح في الإطاحة بحكم المرشد في مصر والقضاء على أهم حلفاء حكام أنقرة في المنطقة، وسقوط حليفها الأخر (حركة النهضة) في تونس. لتبدأ بعدها العزلة الإقليمية لتركيا بعد أن قادتها سياسة (صفر مشكلات) إلى (صفر أصدقاء) في الخارج وتوترات سياسية في الداخل بسبب السياسات الطائفية والعنصرية التي انتهجها حكام أنقرة من العثمانيين الجدد.

ولا شك أن علاقتها الاستراتيجية بالحكام الجدد في العراق، قد مكنتها من مد عمقها الاستراتيجي غرباً، لتصل إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. الأمر الذي راكم من الأوراق الرابحة التي تمتلكها طهران في المنطقة. فالأمريكيون استثمروا كثيراً في أفغانستان والعراق، ولم يكن لهم أن يحققوا نجاحاً نسبياً في البلدين من غير التنسيق وتكامل الاستراتيجيات مع طهران وخصوصاً بعد ظهور (داعش) وما يشكله من خطر على أمن دول المنطقة والعالم.

ومع توقيع اتفاق لوزان النووي بين طهران ودول الـ(5+1) بلغ التوتر ذروته في الشرق الأوسط، بعد أن بلغ الخوف ذروته بين حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة من وجود صفقة سرية بين واشنطن وطهران تقتضي تهميش دورهم الإقليمي لصالح الأخيرة. الأمر الذي دفع الرياض إلى البدء بحشد تحالف له صبغة طائفية وشن عدوان غير مبرر ضد اليمن بحجة التخوف من الوقوع تحت الاحتلال الإيراني.

هذا التحالف بمثابة فرصة لأنقرة للخروج من عزلتها الإقليمية وأزمتها الداخلية حاول أردوغان توظيفه لتحقيق مكاسب خارجية وأرباح محلية. فعلى الصعيد الداخلي، عمد أردوغان إلى تأجيج النزعة المذهبية عشية الانتخابات النيابية، والتي أصبحت أحد ثوابت اللعبة السياسية للعثمانيين الجدد منذ وصولهم إلى السلطة وحتى الآن، من خلال توجيه الانتقاد إلى إيران ووقوفها إلى جانب حركة أنصار الله (الإرهابيين) – كما وصفهم حرفياً – بل دعوة الجمهورية الإسلامية إلى الانسحاب، من اليمن وسوريا والعراق. ويريد أردوغان من خلال ذلك أن يظهر كجزء من تحالف ذي صبغة طائفية، يجد، عشية الانتخابات النيابية، صدى لدى قاعدته الشعبية الداخلية المعبأة أصلا منذ قرون ضد المخالفين لمعتقدهم. أما خارجياً، فيهدف إلى تحقيق عدة أهداف منها: تخفيف العزلة التي وجد نفسه فيها عربياً ودولياً، خصوصاً بعد الخلاف بينه وبين كل من مصر ودول الخليج العربي بسبب الموقف من حركة (الإخوان المسلمين) في المنطقة. لكن تحقيق هذا الهدف ليس بالسهولة التي يعتقدها أردوغان، فبين تركيا والسعودية، تاريخ مثقل بالدماء. وما يمكن أن يجمع الطرفين ليس أكثر من تقاطع مصالح سياسية في زمان ومكان محددين. ومن الأدلة على ذلك أن الود الأردوغاني للسعودية لم يمنع الصحافة المؤيدة لأردوغان من نشر صور للضحايا المدنيين في اليمن، والإشارة إلى أن الطائرت السعودية لم توفر المدنيين من قصفها.

النبرة الخطابية لأنقرة المشحونة بلغة طائفية ضد إيران ودورها في المنطقة، ردت عليها طهران وعلى لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، الذي قال: بان الصهاينة والغرب مرتاحون لمشهد الصراعات في المنطقة وانه (إذا لم يرَ احد الأصابع الخفية للعدو في هذه القضايا فانه لا يخدع إلا نفسه).

مهما توترت العلاقات السياسية بين العاصمتين فإنها لم تحل يوماً دون الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل المباشر، وعلى أعلى المستويات. ويحكم هذه العلاقات عدة عوامل، أولها التاريخ، الذي يعود إلى العام ،1639 عندما رسمت اتفاقية قصر شيرين أقدم حدود مستمرة حتى الآن بين بلدين في المنطقة وربما في العالم. ومنذ ذلك التاريخ لم يجرؤ الطرفان على خرقها.

الجغرافيا، ثاني هذه العوامل، فهي كالقدر الذي يحكم الحياة السياسية في البلدين ويضبط تحركاتها من أجل عدم المغامرة في الدخول في (تصرفات صبيانية) ترتكبها اليوم بعض الدول، أو القوى الإقليمية، التي يفترض أن تكون أكثر ثباتاً وتأنياً في حركتها الخارجية من غيرها. تركيا بوابة إيران البرية الحصرية إلى أوربا، وإيران بوابة تركيا الوحيدة إلى آسيا.

ثالث هذه العوامل هي المصالح الاقتصادية المشتركة، لاسيما في أزمنة الاضطراب في منطقة الشرق الأوسط، وهي كثيرة وطويلة، تدفع إيران وتركيا إلى فصلها عن الخلافات السياسية. وهي قاعدة باتت أنقرة تطبقها مع روسيا مثلاً، من دون أن تطبقها على العلاقة مع دول أخرى مثل مصر، ناهيك عن سوريا والعراق.

أخيراً، توازن القوة الذي يحكم العاصمتين: حيث الكثافة السكانية والقدرة العسكرية والموقع الجغرافي الاستراتيجي الحاكم لكليهما، والاختلاف المذهبي، يحول دون أي تصرف غير محسوب بدقة من جانب أنقرة أو طهران، وهي قاعدة لا تتعلق بهوية النظام الحاكم في كل من البلدين، بل إنها مورست على امتداد القرون الثلاثة الأخيرة.

العدد 1105 - 01/5/2024