عيد البشرية التقدمية

كانت الحرب العالمية الثانية كالأولى، نتيجة تفاقم التناقضات البينية الإمبريالية. بدأت كحرب لإعادة تقسيم العالم والهيمنة عليه. إن انهيار عام 1929 والكساد الذي أعقبه، جعل الحرب بين الإمبرياليين أمراً لا ريب فيه.. وكانت كل البلدان الإمبريالية في الوقت نفسه موحدة في كراهيتها للاتحاد السوفييتي الاشتراكي، باحثة عن أية فرصة لسحقه.. ولكن الاتحاد السوفييتي ومن خلال بناء قوته الاقتصادية والعسكرية وبعض الخطوات الدبلوماسية الرشيقة، ضَمِن في هذا الوضع المعقد أن الحرب المقبلة آنذاك، بدلاً من أن تكون حرباً تشن ضد الاتحاد السوفييتي من قبل القوى المشتركة، ستكون حرباً بين مجموعتين من مصاصي الدماء الإمبرياليين. فقط بعد الغزو النازي للاتحاد السوفييتي في حزيران 1941 اتخذت الحرب طابعاً معادياً للفاشية، وحتى ذلك الوقت كان الاتحاد السوفييتي وحده (مع دعم وتعاطف مئات الملايين من الناس حول العالم، ومن ضمنهم شعوب البلدان الإمبريالية)، من قاتل ضد الفاشية، في حين كانت حليفتاه بريطانيا وأمريكا، مصممتين طوال الوقت على الدفاع عن المصالح الإمبريالية لكل منهما، ومستعدتين للتوصل إلى تفاهم مع ألمانيا النازية، وحده تقدم الجيش الأحمر أحبط خططهما.

تحل في 9 أيار من هذا العام الذكرى السبعون للانتصار على الفاشية الألمانية النازية، إنها في الحقيقة عيد البشرية التقدمية التي دفع عشرات الملايين من الناس في كل أنحاء العالم حياتهم ثمناً له. وفي حين قاتل الناس في كل مكان ضد ألمانيا هتلر الفاشية، وقدموا التضحيات وأسهموا في الانتصار النهائي عليها، إلا أن الإسهام الأبرز قدمته، بلا شك، شعوب الاتحاد السوفييتي تحت راية الماركسية اللينينية الظافرة وقيادة الحزب البلشفي وعلى رأسه يوسف ستالين الأسطوري الذي سحق كل المكائد والمؤامرات ضد الاتحاد السوفييتي، وقاد الشعب السوفييتي -في الحقيقة شعوب العالم- في المعركة الظافرة ضد الوباء الهتلري.

تزييف التاريخ

استقبلت هذه الذكرى السبعون بسيل من النفاق في الإعلام المطبوع والإلكتروني الإمبريالي لغرض وحيد هو إخفاء معنى الحرب العالمية الثانية ومضمونها وأسبابها، والتقليل من الإسهام الحاسم للاتحاد السوفييتي الاشتراكي في سحق آلة الحرب النازية التي بدت وكأنها لا تُهزم.

ظهرت عناوين مثل (مصير ألمانيا تقرر في الأطلسي)، (هتلر هزمه جنونه)، وما شابه ذلك، في حين يعرف كل شخص حسن الاطلاع أن مصير ألمانيا النازية حسم على الجبهة الشرقية في المعارك الهائلة في موسكو ولينينغراد وستالينغراد وكورسك.

لماذا ذهبت الطبقة الحاكمة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة إلى الحرب ضد ألمانيا؟ يتفق جميع المراقبين الموضوعيين على أن الإمبريالية البريطانية ذهبت إلى الحرب ضد ألمانيا النازية، ليس من أجل الحرية والمعركة ضد الفاشية، بل لحماية مصالحها الاستعمارية والإمبريالية بعد أن أخفقت كل محاولات حمايتها من خلال الاسترضاء، أي من خلال مقايضة حرية شعب آخر مقابل حماية جلدها ومصالحها المالية.

كراهية الإمبريالية للاتحاد السوفييتي

كل الإمبرياليين من التشكيلة النازية و(الديمقراطية) على حد سواء، كانوا مشتعلين كراهية شديدة للاتحاد السوفييتي، الدولة الاشتراكية الوحيدة في ذلك الوقت، لسبب بسيط هو أنه من خلال البناء الاشتراكي المخطط بنى حياة جديدة للشعب خالية من الاستغلال والظلم والبطالة والبؤس والإهانة، وذلك في الوقت الذي كان فيه العالم الرأسمالي كله في القبضة الحديدية لأسوأ ركود حتى الآن، ما سلّم خمسين مليون إنسان للبطالة والتشرد والجوع، وقف الاتحاد السوفييتي وحده منارة مضيئة ومثالاً للطبقة العاملة العالمية يظهر كيف يمكن أن تتغير حياة العمال نوعياً نحو الأفضل إذا كانت سلطة الدولة في أيدي الطبقة العاملة. أدرك الاتحاد السوفييتي المطوق بالإمبرياليين المتعطشين للدماء الأخطار جيداً، واتبعت قيادته سياسة معقدة للغاية وعلمية على نحو فريد في قضية الحرب مع الإمبرياليين قادته إلى النصر، ويمكن تلخيصها كمايلي:

الموقف السوفييتي من الحرب مع الإمبريالية

أولاً- كان مسعى الاتحاد السوفييتي عدم التورط في حرب مع الإمبريالية.

ثانياً- بما أن تجنب حرب كهذه لا يتوقف عليه وحده، لذلك إذا كانت الإمبريالية ستفرض حرباً على الاتحاد السوفييتي، فإن الأخير يجب ألا يجد نفسه في موقف يكون عليه فيه أن يقاتل وحده، فضلاً عن مواجهة الانقضاض المشترك للبلدان الإمبريالية الرئيسية.

ثالثاً- ولتحقيق هذا الهدف ينبغي أن تُستغل استغلالاً تاماً الانقسامات بين الدول الإمبريالية الفاشية من جهة والدول الإمبريالية (الديمقراطية) من جهة أخرى. كانت هذه الانقسامات حقيقية واستندت إلى المصالح المادية لمجموعتي الدول المذكورة. أظهر النمو اللامتكافئ للرأسمالية تقدم ألمانيا وإيطاليا واليابان في التطور الرأسمالي لاقتصاداتها (تطور يتطلب إلغاء التقسيم القديم للعالم)، وكانت تطالب بتقسيم جديد لا يمكن إلا أن يضر المصالح المادية للدول الإمبريالية (الديمقراطية)، ولذلك كان هناك مجال حقيقي لاستغلال صراع المصالح هذا من قبل الاتحاد السوفييتي الاشتراكي.

رابعاً- ولتحقيق هذا الهدف اتبع الاتحاد السوفييتي سياسة خارجية معقدة جداً، باذلاً ما بوسعه لعقد ميثاق أمني جماعي مع الدول الإمبريالية (الديمقراطية)، ما يوفر في حال حدوث عدوان كهذا عملاً جماعياً ضد المعتدين.

خامساً- عندما رفضت الدول الإمبريالية (الديمقراطية) المسكونة بكراهيتها للشيوعيين عقد ميثاق أمني جماعي مع الاتحاد السوفييتي وواصلت سياسة استرضاء الدول الفاشية، وخصوصاً ألمانيا النازية، في مسعى لتوجيه عدوانها شرقاً ضد الاتحاد السوفييتي، اضطر الأخير إلى تجربة طريقة أخرى لحماية مصالح الوطن الاشتراكي للبروليتاريا العالمية. في خطابه أمام المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي السوفييتي في عام ،1939 كشف ستالين الدوافع وراء سياسة عدم التدخل التي تبنتها البلدان الإمبريالية (الديمقراطية) وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، كمايلي:

(تكشف سياسة عدم التدخل التلهف والرغبة في عدم إعاقة ألمانيا، لنقل، عن التورط في حرب مع الاتحاد السوفييتي، في السماح لجميع المحاربين بالغرق عميقاً في مستنقع الحرب، وتشجيعهم سراً على ذلك، في السماح بأن يضعف ويستنزف أحدهما الآخر، وبعد ذلك عندما يصبح المحاربون ضعفاء بما فيه الكفاية، يظهر هؤلاء على المسرح بقوة مفعمة بالنشاط، يظهرون طبعاً (لمصلحة السلم) ويُمْلون الشروط على المحاربين الموهنين.

(رخيصة وسهلة) (ستالين، مسائل اللينينية، موسكو ،1953 ص ،754 الطبعة الإنكليزية). بعد ذلك وفي إشارة إلى اتفاقية ميونيخ التي سلمت تشيكوسلوفاكيا للنازيين، يواصل ستالين: (يمكن أن يفكر المرء أن مناطق تشيكوسلوفاكيا مُنحت لألمانيا كثمن لتولي شن حرب على الاتحاد السوفييتي). (المصدر السابق، ص 756).

وفي إيجاز لمهام السياسة الخارجية السوفييتية، وعبر تحذير مبطن للطبقات الحاكمة في البلدان الإمبريالية (الديمقراطية)، تابع ستالين ليشدد على الحاجة إلى الحذر وعدم السماح بجر بلدنا إلى نزاعات من قبل مثيري الحروب المعتادين على جعل الآخرين يسحبون لهم الكستناء من النار). (المصدر السابق، ص 759).

وهكذا إزاء رفض بريطانيا وفرنسا العنيد عقد ميثاق أمن جماعي، وبعد اتفاقية ميونيخ التي لم يُستشر الاتحاد السوفييتي حتى بنشأتها، قلب الأخير الطاولة على السياسة الخارجية لبريطانيا وفرنسا بتوقيع ميثاق عدم الاعتداء الألماني السوفييتي في 23 آب 1939.

سادساً- بتوقيع هذا الميثاق، لم يضمن الاتحاد السوفييتي فقط أنه لن يقاتل ألمانيا وحده، بل كذلك أن الأخيرة ستقاتل ضد القوى ذاتها التي حاولت برفضها الموافقة على الأمن الجماعي، توريط الاتحاد السوفييتي في حرب مع ألمانيا. غزا هتلر بولونيا في 1 أيلول، وبعد يومين انقضى الإنذار الإنكليزي الفرنسي، وأصبحت بريطانيا وفرنسا في حالة حرب مع ألمانيا.

من المفهوم بالطبع أن تهاجم الإمبريالية حتى اليوم الاتحاد السوفييتي وتتهمه بـ(الخيانة) لعقده ميثاق على الاعتداء مع ألمانيا (متناسية) أن الخيانة الحقيقية كانت في ميونيخ قبل عام. أما أولئك الماركسيون الذين يواصلون انتقاد الاتحاد السوفييتي لعقده ميثاق عدم الاعتداء الألماني السوفييتي فيستحسن أن يستمعوا إلى البروفسور اليميني توبيتش.

البروفسور النمساوي توبيتش معروف بعدائه للشيوعية وبميوله للإمبريالية، لذلك لا يمكن اتهامه بشيء من التعاطف مع ستالين والاتحاد السوفييتي الذي قاده. قال مايلي في القضية التي نحن بصددها: (إن التحليل الشامل لتفاعل الأحداث الرئيسية قادني إلى القناعة بأن.. ستالين لم يكن فقط المنتصر الحقيقي، بل الشخصية الرئيسية في الحرب. كان في الحقيقة رجل الدولة الوحيد الذي امتلك في ذلك الوقت فكرة واضحة واسعة الأساس لأهدافه). (إرنست توبيتش، حرب ستالين، لندن 1987 ص4).

وبعد ذلك: (تظهر أحداث صيف 1939 النتائج المشؤومة لانعدام صفات رجل الدولة والرؤية السياسية العالمية لدى هتلر وتجعله أقل شأناً بكثير من نظيره الروسي – المقارنة بينهما في مجال الذكاء السياسي والأسلوب السياسي تشبه المقارنة بين مقامر وأستاذ شطرنج، وليس من المبالغة تأكيد أن الفوهرر وقع كصبي مدرسة في فخ نصبته له موسكو). (المصدر السابق، ص 7).

وعن ميثاق هتلر – ستالين كتب المؤلف نفسه:

(بعد عقد هذه المعاهدة اعتبر هتلر وريبنتروب نفسيهما رجلي دولة من الطراز الرفيع، في حين كشفت أعمالهما نقصاً مخيفاً في الذكاء السياسي.. وفي حين فكّر ستالين ملياً بمحتوى وأسلوب الاتفاقيات، كان الطرف المقابل عاجزاً حتى عن الفحص الدقيق للنتائج التي قد تنجم لألمانيا من تلك الوثائق المشؤومة. كانت المعاهدتان في الواقع مناسبتين تماماً للاستراتيجية السوفييتية بعيدة المدى، توريط ألمانيا في حرب مع البريطانيين وجعلها متوقفة على روسيا، وإذا سنحت الفرصة التسبب في انقراضها كقوة مستقلة، كان ستالين البعيد النظر يفكر في هذه المرحلة المبكرة بالحصول على نقطة انطلاق إيجابية لتنفيذ خطط كهذه). (ص 4)

وبفضل معاهدة الحياد مع اليابان في نيسان 1941 نجح الاتحاد السوفييتي في أن يحقق في الشرق ما كان حققه في الغرب من خلال ميثاق عدم الاعتداء مع ألمانيا.

سابعاً- مضت شروط البروتوكول الإضافي السري بعيداً في حماية (مناطق المصالح) السوفييتية التي ثبت أنها حيوية للدفاعات السوفييتية عندما وصلت الحرب فعلاً إليه.

أخيراً.. اشترى ميثاق عدم الاعتداء الألماني السوفييتي للاتحاد السوفييتي فترة ثمينة للغاية، سنتين، لتقوية استعداده الدفاعي قبل أن يدخل حرباً عرف أنه لا يستطيع البقاء خارجها إلى الأبد.. وعندما فُرضت الحرب أخيراً على الاتحاد السوفييتي قدم الإسهام الأكثر بطولية في النصر المتوج والمجيد للحلفاء ضد ألمانيا النازية. أظهر الجيش الأحمر والشعب السوفييتي تماسكهما، وتماسك وتفوق النظام الاشتراكي بدحر النازيين في الاتحاد السوفييتي وملاحقتهم طوال الطريق إلى برلين، محرراً بلداً بعد آخر من الاحتلال النازي، وحاملاً الاشتراكية إلى أوربا الشرقية.

العدد 1107 - 22/5/2024