الموقف من التدخل الأجنبي بين الأمس واليوم

بالأمس عندما كانت تتحرك قطعة واحدة من قطع الأسطول السادس الأمريكي أو من حلف الناتو مقتربة من المياه الإقليمية السورية، كانت شوارع المدن السورية والفرنسية تمتلئ بالمظاهرات الصاخبة وتغص بالمتظاهرين الغاضبين، تندد بالتدخل الأجنبي في شؤون البلاد العربية، وتطالب بإسقاط الحكومات التي تتواطأ معها.

أما الأحلاف العسكرية فكانت مرفوضة رفضاً باتاً من قبل الشعوب العربية عامة، والشعب السوري خاصة، ولذلك فقد انهارت كل المشاريع والأحلاف العسكرية، بدءاً من مشروع النقطة الرابعة مروراً بمشروع أيزنهاور وحلف بغداد السيئ الصيت، وكذلك فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحافظت الدول العربية على استقلالها السياسي، وتابعت السير على طريق التحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي.

اليوم ماذا جرى؟ وماذا حدث لعقولنا نحن العرب؟ ولماذا تحثّ دولنا الخطا للالتحاق بهذا التحالف المشبوه؟ وهل أمريكا تختلف عما كانت عليه في القرن الماضي؟!

إن الإمبريالية هي الإمبريالية، وأمريكا هي أمريكا، بل إنها اليوم أكثر شراسة ووحشية، والدول الاستعمارية الغربية منفردة أو مجتمعة مستعدة لإبادة أي شعب من شعوب العالم دون أن يرف لها جفن، في سبيل الحصول على برميل نفط واحد، كما يحدث اليوم في العراق.

إن المرحبين بالتدخل الأجنبي رغبة وأملاً في أن يقضي على المنظمات التكفيرية والإرهابية ممثلة بـ(داعش) وأخواتها، فإن فالهم قد خاب، لأن هذه المنظمات، وعلى رأسها القاعدة و(داعش) هي صناعة إمبريالية صهيونية أمريكية صنعت لتشكل ذريعة وحجة للتدخل الإمبريالي والاستعماري في أي مكان في العالم، كما حدث في أفغانستان والعراق ومالي ويحدث الآن في سورية، وها هي ذي داعش تصول وتجول وتذبح وتقطع الرؤوس كما يحصل اليوم في تدمر والرمادي، غير عابئة بدول التحالف ولا بأسطولها الجوي.

أما المرحبين بالتدخل الأجنبي آملين أن يتحول هذا التدخل إلى حرب ضد الأنظمة الحاكمة وتغيير السلطة فيها وتقديمها إلى المعارضة على طبق من ذهب، فإن أحلامهم هذه غير موضوعية وتدل على عدم دراية بقوانين التاريخ الثورية التي تؤكد أن مهمة تغيير أنظمة الحكم هي مهام سياسية ونضالية دؤوبة تنتصب أمام الشعوب وقواها السياسية، كما أن لها شروطها الاقتصادية والاجتماعية.

إن أمريكا وحلفاءها لا يعنيهم الحفاظ على أنظمة الحكم بل الضغط عليها وجرها إلى مستنقع التنازلات المتلاحقة عن مواقفها الوطنية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضة، فأمريكا لا يهمها من أمر المعارضة شيء، سوى توظيفها في خدمة مخططاتها الاستعمارية، وهي لم ولن تقدم لها سوى الوعود المعسولة المغموسة بالسموم والشحن الطائفي، في خضم إعلام مزيف وأحلام وهمية وكاذبة تصب في خانة التغرير بالمعارضة وتفريقها وتمزيقها إلى مجموعات طائفية وإثنية ذاهبة باتجاه تشكيل معارضة (معتدلة مطواعة) تأتمر بأمرها وتنفذ سياستها.

إن هذه السياسة الأمريكية ليست جديدة في بلادنا ولا في بلاد العالم، منذ ظهورها على المسرح الدولي في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.. لقد مثلت سياستها على الدوام الخصم اللدود للشعوب وتطلعاتها الوطنية والديمقراطية والتقدمية في كل مكان من العالم، وكانت على الإطلاق الداعم الحقيقي للقوى والدول الرجعية والعنصرية.. لقد وقفت وراء كل الانقلابات العسكرية في العالم، كما حدث في اليونان وتشيلي وإندونيسيا والبلدان العربية والإفريقية وفي أمريكا اللاتينية.

أما الأهداف الإمبريالية الحقيقية من خلق النزاعات ودب الفتن وإشعال الحروب، فهي تشغيل ماكينتها العسكرية والعمل على تدمير قدرات الشعوب.

إن تدمير البنى التحتية للاقتصاد السوري التي بناها الشعب السوري بعرق جبينه، بذريعة ضرب داعش، هو عمل مشبوه، كما أن للمشروع الإمبريالي الصهيوني بقيادة أمريكا أهدافاً سرية بدأت تتكشف اليوم وتتمثل في إعادة رسم خريطة جغرافية جديدة للمنطقة وتقسيمها إلى دويلات طائفية وإثنية تتلخص بعدم وجود دولة قوية تهدد أمن إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

إن نسف مفهوم العلاقات الأممية بين الشعوب، ومفهوم الدولة القومية ومفهوم الدولة الوطنية، هي مهمة أمريكية إمبريالية من الدرجة الأولى، وبذلك يسهل على الرأسمالية العالمية إحكام سيطرتها على العالم.

وبالمقابل، لأن الفأس الإمبريالية تحفر بكل قوتها في الرأس والجسد العربي، فإن على الشعوب قاطبة والشعوب العربية خاصة أن تتعاون وتتضافر في مواجهة هذا التوحش الإمبريالي، كما أن على الشعب السوري بشكل خاص أن يعيد النظر بالسياسات التي أدت إلى هذا الوضع والتمسك بمفهوم الدولة الوطنية ونبذ كل المشاريع الطائفية البغيضة.

إن على السوريين جميعاً الاستفادة من النتائج الكارثية التي تتركها هذه الصراعات القذرة، والجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط تعجيزية، وباتفاقهم سيتم إفشال هذه المخططات والعودة بسورية موحدة كما كانت دائماً وطناً للجميع.

العدد 1105 - 01/5/2024