التقارب الروسي اليوناني (زواج مصالح) أم أداة ضغط مشتركة؟

وقعت روسيا واليونان مذكرة تفاهم في المنتدى الاقتصادي الذي عقد مؤخراً بمدينة بطرسبرغ الروسية للتعاون في بناء خط أنابيب لنقل الغاز عبر الأراضي اليونانية وتشغيله ليكون امتداداً لخط «Turkish Stream– السيل التركي»، وبذلك تكون أثينا قد حسمت قرارها لصالح الانضمام للمشروع، ورفض الإغراءات والضغوط التي مورست عليها للانسحاب منه. وقال وزير الطاقة اليوناني، باناغيوتيس لافازانيس، خلال مراسم التوقيع: (إن اليونان تحتاج إلى الدعم لا الضغط عليها خلال أزمة ديونها)، مضيفاً أن التعاون مع روسيا ليس موجهاً ضد دول أخرى أو أوربا، ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المشروع بقوله: (إنَّ مشروع السيل التركي للغاز الطبيعي سيجعل من اليونان قاعدة للغاز بالنسبة للقارة الأوربية).

ولكن هل انضمام اليونان إلى المشروع سيوقف الضغوط الأمريكية والأوربية التي تمارس عليها للخروج منه، ولا سيما أن أثينا تعاني من ضائقة مالية خانقة، كما أن برنامج التقشف زاد من معاناة المواطنين في اليونان دون أن يقدم أية إيجابيات للاقتصاد اليوناني، وبالتالي لا بد من ابتكار وصفة جديدة تحقق النمو، وخلق فرص العمل لليونانيين.

لقد اختلفت تقديرات الخبراء والمتابعين بشأن الاتفاقية، إذ يأتي مشروع (السيل التركي) في ظل ظروف سياسية غير مستقرة إذ إن علاقات روسيا مع أوربا متوترة، كما أن الاقتصاد العالمي يواجه أزمات صعبة وأسعار النفط غير مستقرة، فاعتبر مراقبون أن للصفقة آثاراً إيجابية مستقبلية على اليونان، في حين اعتبرها آخرون مناورة من اليونان للضغط على الدائنين الأوربيين، بينما رأى متابعون أنها مناورة روسية للضغط على أوكرانيا التي يجري منها تصدير معظم الغاز الروسي إلى أوربا، التي تمدها روسيا بنحو ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي، فوصفوا التقارب اليوناني الروسي بأنه (زواج مصالح)، إذ تريد روسيا التخلص من العقوبات المفروضة عليها أوربياً، في حين تريد اليونان تجاوز أزمتها الاقتصادية وتأمين دخل نقدي، إلى جانب أن الخط سيخلق فرصاً للتنمية ويوجد فرص عمل.

ومن ناحية أخرى فإن اليونان عضو في الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي يحتفظ بقواعد أمريكية في أراضيها، فأيّ خطوة تخطوها باتجاه روسيا ستجعلها أمام مراجعة بقائها في منظمات الغرب الذي تتبع له اليونان منذ خطة مارشال، وخروج اليونان من هذه التحالفات أمر تعترض عليه نسبة كبيرة من الشعب اليوناني رغم وجود تيار قوي مؤيد لتمتين العلاقات مع روسيا يتمثل في الكنيسة الأرثوذكسية وحزب اليونانيين المستقلين المشارك في الحكومة.

لكن صحيفة (توفيما) اليونانية المعارضة، ذكرت مؤخراً، أن السفارة الأمريكية في اليونان أصدرت بياناً، قالت فيه إن الولايات المتحدة قلقة من احتمال مد الخط التركي في اليونان، لأنها تعتقد أنه لن يزيد من امتياز اليونان في مجال الطاقة، ومن المحتمل أن يولّد قلقاً لدى السلطات الأوربية.

وقالت الصحيفة إن الولايات المتحدة ستساعد اليونان على الدخول في برامج مثل خط غاز (تاب)، الممتد من أذربيجان والمار من بحر قزوين إلى اليونان ثم إلى إيطاليا وغرب أوربا.

ومن جهته قال بيار موسكوفيسي المفوض الأوربي المكلف الشؤون الاقتصادية إن (مصير اليونان واليورو على المحك). ويقول خبراء في لندن، إن العواقب المترتبة على خروج اليونان مالياً واقتصادياً تم حسابها منذ شهور، ولم يعد خروج اليونان ذا أثر على منطقة اليورو من الناحية المالية والاقتصادية، بدليل أن الأسواق تسير بشكل طبيعي، والمستثمرون يشترون سندات دول المنطقة الضعيفة مثل البرتغال وإسبانيا.

لكن ما يقلق قادة أوربا حالياً هو (الكلفة السياسية) لخروج اليونان في هذا الوقت، وامتداد علاقتها عبر موسكو إلى الصين، وصفقات مرور الغاز الروسي عبر أراضيها إلى أوربا، إضافة إلى أن خروج اليونان سيفتح الباب أمام خروج دول أخرى مستقبلاً، ويزيد من الشكوك حول مستقبل بقاء منطقة اليورو.

وتنص مذكرة التفاهم على تأسيس شركة يملكها البلدان مناصفة لبناء خط أنابيب غاز يمر عبر اليونان بتمويل روسي، ويتألف المشروع من أربعة خطوط تبلغ طاقتها 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، علماً بأن المرحلة الأولى من المشروع تتضمن مد خط وحيد من الخطوط الأربعة بقدرة تناهز 16 مليار متر مكعب ستذهب لسد حاجة تركيا من الغاز.

وقد ظلت أوكرانيا لسنوات ممر الترانزيت الرئيسي لصادرات الغاز الروسي إلى أوربا، إذ يمر عبر أراضيها نحو 40% من إجمالي الإمدادات الروسية، لكن الخلافات الروسية الأوكرانية أثرت على أمن الشحنات المنقولة إلى بقية القارة الأوربية، فكان البديل الروسي هو إنشاء خط «South Stream– السيل الجنوبي» لربط روسيا ببلغاريا عبر البحر الأسود ومنها إلى وسط أوربا وجنوب شرقها، لكن المشروع توقف عام 2014 بسبب الأزمة الأوكرانية، وقد حمّل بوتين الأوربيين المسؤولية عن قراره لوضعهم عقبات كثيرة أمام هذا المشروع ولضغطهم على بلغاريا، وهي من بلدان الترانزيت في المشروع، لوقف مد الأنابيب عبر أراضيها. وبحسب بوتين، فإن بلغاريا ستخسر 400 مليون دولار سنوياً، كان يمكن أن تحصل عليها مقابل ترانزيت الغاز عبر (السيل الجنوبي).

وبسبب سياسة الاتحاد الأوربي فقدت بلغاريا منذ 2008 مشروعين كانت ستنفذهما روسيا وهما محطة (بيلينا للطاقة النووية)، وخط (بورغاز-ألكساندر)، وهو خط غاز يصل إلى اليونان)، وعلق وزير الاقتصاد البلغاري السابق (رومين أوتشاروف) على ذلك سابقاً بأنَّ (خسائر بلغاريا من توقف المشروعين إضافة إلى مشروع السيل الجنوبي، ستتجاوز مليار يورو).

وفور توقف مشروع السيل الجنوبي استبدلت روسيا بالفكرة مشروع (السيل التركي) عبر تركيا، الذي يصل حتى الحدود مع اليونان حيث سينشأ مجمع للغاز لتوريده فيما بعد للمستهلكين جنوب أوربا، وقد حاز المشروع على موافقة أنقرة التي تأمل في حصولها على تخفيض لأسعار الغاز الروسي مقابل دعمها للمشروع.

العدد 1105 - 01/5/2024