ألمانيا واليابان.. عودة للنزعة العسكرية

تعود شيئاً فشيئاً نزعة الهيمنة والتوسع من جديد إلى كل من ألمانيا واليابان بعد مرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ومرور 75 سنة على اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945).

 

ألمانيا

في عام 2013 عكف أكثر من 50 من كبار الساسة والصحفيين والأكاديميين والعسكريين وممثلي قطاعات المال والأعمال الألمان، على وضع استراتيجية جديدة لألمانيا في مجال السياسة الخارجية تحت إشراف خزان الأفكار الحكومي (فاونديشن فورساينس أندبوليتكس) و(جيرمان مارشال فند).

وتضمنت هذه الاستراتيجية (اعتبار ألمانيا دولة تجارة وتصدير تعتمد أكثر من أية دولة أخرى في العالم على الطلب من الأسواق العالمية، وعلى حرية النفاذ والوصول إلى خطوط التجارة والمواد الخام، وأن ألمانيا يجب أن تلعب دوراً قيادياً على المستوى الدولي من خلال حلف الناتو، وتوظيف نفوذها المتنامي في التوجه الجديد للحلف).

وتأكيداً لجدية تفعيل بنود هذه الاستراتيجية، أدلى فرانك والترستيتمير الذي تبوأ منصب وزير الخارجية ممثلاً للحزب الديمقراطي الاجتماعي في الحكومة الائتلافية برئاسة أنجيلا ميركل خلال الفترة من 2005-2009 والذي عاد لتسلم هذا المنصب في أواخر عام ،2013 ومعه وزير الدفاع فون ديرليين، أدلى حينئذ بتصريحات واضحة حول إعادة تدشين نزعة الهيمنة والتوسع الألمانية من جديد إلى السياسة الخارجية الألمانية مفادها (أن مرحلة تقييد وكبح العسكرية الألمانية قد انتهت، وأن ألمانيا من العَظَمة بحيث لا يمكن قبول مقاربتها للسياسات الدولية من على هامش الآخرين، وأن عليها أن تكون جاهزة للتدخل بشكل كبير وقوي في السياسات الخارجية والأمنية الدولية).. وهذا بالفعل ما عملت عليه ألمانيا بالتنسيق مع الولايات المتحدة في حشد الميليشيات الفاشية وتنظيمها وتسليحها في غرب أوكرانيا الذين كانوا بقيادة ستيبان بانديرا، وناصروا النازيين الذين احتلوا بلادهم أيام الحرب العالمية الثانية.

وبالتوازي مع إعادة انبعاث هذه النزعة، بدأ الاشتغال على إعادة تشكيل الرأي العام.. وفي هذا السياق تم تخصيص أهم برنامجين إخباريين في التلفزيون الرسمي لبث الدعاية لهذه التوجهات الجديد في السياسة الخارجية الألمانية، حيث تواصل وزارة الخارجية الألمانية على الدوام نشر بيانات تحت عنوان (مصير ألمانيا هو أن تقود أوربا لقيادة العالم)، ويتناوب وزير الدفاع فون ديرليين والرئيس يواخيم غاك على تكثيف الحملات ضد روسيا، في حين يقوم الصحفيون الألمان الذين لهم علاقات متينة مع مؤسسات أمريكية نافذة من مختلف الصحف الألمانية مثل (دي تسايت)، أي الوقت الأسبوعية المحسوبة على الحزب الاجتماعي الديمقراطي، و(فرانكفورتز) و(دير شبيغل)، ومجلات عديدة أخرى يقومون بمهاجمة روسيا دون كلل أو ملل. كذلك أُقحمت الجامعات في هذه الموجة الصاعدة لإعادة بعث العسكرة الألمانية، وصار من الصعوبة بمكان على الأكاديميين الموضوعيين أن يعاكسوا هذا التيار المتنامي بعد أن رأوا بأم أعينهم ما تعرض له عالم التاريخ الألماني فرتير فيتش المتوفى عام 1999 من هجمات شنيعة على ما قاله في ستينيات القرن الماضي من أن الأهداف العدوانية نفسها التي حركت الإمبراطورية الألمانية لشن الحرب العالمية الأولى، هي الأهداف العدوانية نفسها التي وضعها هتلر لشن الحرب العالمية الثانية.. وهذا ما يُفهم منه أن التدخل الألماني السافر والمتغول في أوكرانيا بالتعاون مع واشنطن يجسد على أرض الواقع استراتيجية إعادة إنتاج السياسات السابقة للرايخ الثالث وما قبله. وفي شهر آذار الماضي، أقرت الحكومة الألمانية موازنة عام ،2016 التي تضمنت بنوداً لتصعيد مخصصات الإنفاق العسكري حتى عام 2019 بواقع 8 مليارات يورو، أي أكثر مما كان قد خُطط له للسنوات الأربع المقبل.

 

اليابان

أما اليابان حليفة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فهي الأخرى تجتاحها حمّى العودة إلى ماضيها العسكرتاري في ظل قيادة رئيس الوزراء شيينزو أبي، الذي يشرف هذه الأيام شخصياً على عملية تغيير جذرية للسياسة الخارجية لليابان، بما يشمل إعادة النظر في المادة التاسعة من الدستور الياباني التي وضعتها واشنطن بعد استسلام اليابان من أجل تقييد العسكرة العدوانية اليابانية. ويطمح شينزو إلى إطلاق يد اليابان وإشراكها في الحروب التي يشنها حلفاؤها في الحلف الأطلسي وتعظيم قدرات بلاده العسكرية، غير مُبال بتاريخ اليابان العدواني في الحرب العالمية الثانية والجرائم التي ارتكبتها اليابان في بلدان شرق آسيا التي احتلتها، بل يرفض بشدة الاعتراف بجسامة تلك الآثام، وهو مستعد للذهاب إلى أكثر من ذلك، مثل القيام بزيارات إلى ضريح ياسوكوني وإلى متحف يوشوكان الذي يُمجد الحرب. جدير بالذكر أن ضريح ياسوكوني هو عبارة عن معبد شنتو الذي بُني عام ،1869 في حي تشيودا في العاصمة اليابانية طوكيو، ويضم مقبرة أقيمت لتكريم مليونين و466 ألف رجل وامرأة سقطوا في المعارك من أجل إمبراطورية اليابان، ويثير هذا المعبد جدلاً بسبب إيوائه لـ14 مجرم حرب من الدرجة الأولى كانت قد صدرت بحقهم أحكام بالإعدام في المحكمة التي أقامتها دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية في عام ،1945 كما تعتبره الدول المجاورة رمزاً سيئاً للحقبة التوسعية الاستعمارية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية.

 

مخاطر وتداعيات

والسؤال هنا: أين الخطورة في كل ذلك؟ لا شك بأن الخطورة تكمن في اجتماع هذا الانبعاث الجديد القديم للروح القومية الشوفينية والعسكرتارتية مع إمكان حدوث حالة انسداد لأفق النهوض الاقتصادي المعتاد، وما يترتب على ذلك من تداعيات اجتماعية، وهي (التوليفة) التي حرّضت الدولتين على غزو البلدان المجاورة، كما تكمن الخطورة أيضاً في الإشارات الواضحة التي ترسلها الدولتان (ألمانيا واليابان) بأنهما لا تتعظان بتاريخهما المرير.

د. صياح عزام

العدد 1105 - 01/5/2024