منمنمات سعد الله ونوس

تعد المرحلة الأخيرة من حياة سعد الله ونوس (،19971941 خصوصاً بعد إصابته بمرض السرطان، هي الفترة الأكثر غزارة إنتاجياً وفكرياً في حياته، فكأنه كان يصارع الموت بالإبداع والقلم، وقد شغلته في هذه المرحلة علاقة المثقف بالسلطة، وحلّل وبحث في الانهيارات والمآسي التي حلت بالوطن.

في مسرحية (منمنمات تاريخية)- ،1994 قدم سعد الله نقداً عميقاً ووصفاً دقيقاً لطغيان الحكام وفساد رجال الدين ونفاق المثقفين وسلبيتهم حين تتعرض أوطانهم للأزمات، ووصف مأساة علاقتهم وتداخلهم بالواقع السياسي والهزائم التي تكررت وتتكرر في كل عصر من تاريخنا. اختار ونوس إطاراً زمنياً ومكانياً لمسرحيته، وعاد بنا إلى زمن حصار التتار لدمشق (803هـ)، ليشرح ويفكك الأحداث التاريخية والاجتماعية للمدينة وأهلها. قسم سعد الله مسرحيته إلى ثلاث منمنمات (شكل من أشكال الزخارف الإسلامية)، يخبرنا عنوان كل منمنمة بما تحمله من إحداث تمتد زمنياً على امتداد المسرحية بما يقارب الشهرين- المنمنة الأولى (الشيخ برهان الدين التاذلي أو الهزيمة)، المنمنمة الثانية (ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون أو محنة العلم)، المنمنمة الثالثة (آزدار أمير القلعة أو المجزرة). تبدأ المنمنمة الأولى بصوت مؤرخ قديم يسجل العام الذي حكم فيه (المتوكل على الله) والسلطان المملوكي (برقوق) ويخبرنا بصوت عال عند بدء اجتياح تيمورلنك لحلب وزحفه باتجاه دمشق، ويمهد الجو العام المأساوي والانهيارات التي حدثت وستحدث لاحقاً. في هذه المنمنمة يصف ونوس العلاقات الداخلية في مدينة دمشق وانفصال الحكام عن الجماهير الذي سيتكرر مراراً عبر التاريخ (هروب نائب دمشق ثم لاحقاً هروب السلطان)، ويحلل جشع التجار وتحالفهم مع رجال الدين الذين أصبحوا أصحاب القوة الفعلية في غياب السلطة، ويقررون التحالف مع حاكم القلعة فقط بعد أن يضمنوا حفاظه على مصالحهم وامتيازاتهم وعدم مساسه بها (ألن يمد يده إلى الأوقاف؟).

 تحضر شخصية جمال عبد الناصر بقوة في هذه المنمنمة عبر شخصية الشيخ التاذلي- هذه الشخصية الكاريزمية، التي تقود الجماهير في تحضيرها للدفاع عن المدينة قبل لحظات من الانهيار ويهيئها للصمود وتجاوز الهزائم المتكررة، فجملته التي يقولها وهو يحمس المدافعين عند أسوار المدينة: (نحن أمام معركة مصيرية ولا وقت للحسابات الصغيرة) تحيل إلى صرخة عبد الناصر الشهيرة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة). تتتالى الإشارات التي تعبر عن التشابه بين الشخصيتين عبر المسرحية كرمز للنضال والصمود في زمن الهزيمة والتخاذل (لم أر في حياتي جنازة احتشد فيها هذا الجمع من الناس)، (سيبقى ذكر التاذلي حياً في الأذهان أجيالاً بعد أجيال).

في المنمنمة الثانية (محنة العلم)، تتتالى الأحداث بالنسق المأساوي ذاته وتسقط المدينة بيد التتار وتبقى القلعة صامدة لما يقارب أربعين يوما، ويسود مناخ الاستسلام، ويقوم التجار ورجال الدين بالتواطؤ والتعامل مع تيمورلنك ويفككون أحجار القلعة. في هذه المنمنمة يركز ونوس على شخصية ابن خلدون كنموذج للمثقف الحيادي والبعيد عن محنة شعبه وموقفه من الأحداث في زمن الحرب، ويستلهم سعد الله، هنا، رؤية (غرامشي) عن المثقف العضوي، لينزع حالة القدسية والأهمية الكبيرة التي يتمتع بها ابن خلدون في التاريخ العربي. (أتريدني أن أذرف الدموع؟ ليست لدي دموع. وهذه البلاد التي تنوح عليها مهترئة، ومغزوة بلا غزو. هل أتحمّل السير في ركاب تيمورلنك؟ نعم.. ولمَ لا؟)، هكذا يخاطب ابن خلدون تلميذه، ليبرر تخاذله وحياديته القاتلة في أجواء المأساة والحرب بدلاً من أن يقوم بواجبه في تعبئة الطاقات للمواجهة والصمود. تتوالى إشارات الاستسلام عبر استمرار الأحداث وعبر نسق الحوار بين ابن خلدون وتلميذه، ورويداً رويداً يعرّي ونوس أوراق التوت التي تغطي ابن خلدون، ويقوم بتدمير الهالة والقداسة اللتين تحيطان به عبر التاريخ، لا بنيّة التدمير بل لخلق رؤية جديدة وفعالة في مواجهة الحياد والخيانة التي تعج بها أقوال ومواقف ابن خلدون في أوقات الأزمات ومعاصريه من المثقفين الداعين للتخاذل و التخلي عن النضال (إن الجهاد لم يعد ممكناً.. لا.. لا يتحدث عن الجهاد هذه الأيام إلا رجل يضرب في الوهم أو يريد أن يلبس على الناس.. الموسوسون هم أولئك الذين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ومواجهة الغزاة).

يحلل سعد الله ونوس في هذه المنمنمة البنية الفكرية للمثقفين ويعبّر بوضوح أن قوة المثقف ليست مستمدة من أفكاره وإنتاجه العلمي أو الأدبي فقط، بل هي مستمدة كذلك من عمق المواقف التي يستند بها على ثقافته ليكون موجهاً وفاعلاً في المواجهة، ويشق الطريق لنفسه وللآخرين في الكفاح و النهوض، يقول عبد الرحمن منيف في كتابه (الديمقراطية أولاً- الديمقراطية دائماً): (إن أهمية المثقف تتوقف على الدور الذي يقوم به كمثقف وكإنسان في مرحلة تاريخية معينة). تنتهي المنمنمة بمشهد ابن خلدون وهو يقوم بوضع خريطة للمغرب العربي ليستخدمها تيمورلنك في غزوه لهذه البلاد.

تبدأ المنمنمة الثالثة (المجزرة) بالتفصيل التالي: (في الجامع الأموي، أمراء تتار وعساكر يقصفون بالجامع، ومعهم بعض بنات الهوى)، فلقد استباح التتار مدينة دمشق وبقيت القلعة صامدة في وجههم ووجه المتخاذلين من أبناء المدينة. ربما يمكننا كقراء أن نعيد تسمية المنمنمة بـ (بيروت 1982)، فونّوس مستلهماً ماركس، يخبرنا أن التاريخ يكرر نفسه بقسوة وبصور أبشع، فتتماهى دمشق المملوكية مع بيروت ومدن عربية أخرى تعرضت للمجازر عبر التاريخ. فحين نقرأ هذه المنمنمة، نرى بيروت بكل أوجاعها ومأساتها وهي تتعرض للغزو الإسرائيلي والمجازر والتدمير الهائل الذي تعرضت له، يقول ونوس على لسان ابنة التاذلي: (رأيت البارحة مناماً غريباً. كنت في مدينة ساحلية. لعلها طرابلس أو بيروت، والأرجح أنها بيروت. وكنا محاصرين كحالنا هنا، ولكن الوقت صيف، والشمس ساطعة وحارة. ورأيت طيوراً غريبة تحلق فوقنا، طيوراً لها هدير، كأنها من فضة أو حديد، وكانت ترمي فوقنا كتلاً نارية مرعبة، تدوي، وتدمر).

يشيد ونوس بالمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية اللتين حققتا نصراً في المفاهيم ونصراً في الإرادة عبر المواجهة والصمود.

العدد 1107 - 22/5/2024