متى يعود الرجال؟

كان الصباح جميلاً، دافئا ومشمساً، يبعث في الروح فرحاً خفياً، وكنت أستقبل أشعة الشمس كمن يستقبل مسافراً من مكان بعيد، أبتسم للنسيم، وأضحك في وجه الصباح.. ربع ساعة قضيتها أنتظر السيرفيس، كانت مملة في الدقائق الأولى، إلا أن العائلة الصغيرة التي انتظرت معي أزاحت عني ملل تلك الدقائق:

أم صغيرة في الثلاثين من العمر، سرق السواد منها ابتسامتها الدافئة، وأسبغ على وجهها شحوب الفراق المر، وطفلان بعمر الزهور، صبيان يلعبان بكل شيء، ولو استطاعا رؤية الهواء للعبا به.. يبدو أن المرأة ملّت من الانتظار فسألتني: (كأنّو ما في سير؟)، فأجبتها: (في سير، بس اليوم أحد، وبيكون عجقة أكتر)..
هزّت برأسها دون أن تتكلم.. أما الطفلان فقد أنسا لي حين كلمتني أمهم، فاقترب واحد منهما وسألني: (وإنتي كمان رايحة على بيت جدك؟)، ابتسمت في وجهه وقلت له: (إي.. إنتو رايحين على بيت جدكن؟) فأجابني أخوه: (إي.. قال تيتي تعبانة وبدنا نشوفها، ياحرام اشتاقت للبابا).. وهنا صمتُّ.
(اشتاقت للبابا).. يالصعوبة هذه الكلمة ومرارتها على القلب.. دون أن أسال، كنت أقرأ شهادة والدهم في عيون والدتهم.. في ابتسامتها الغائبة.. وفي دموعها الحاضرة للسقوط في أي لحظةٍ، ولكن فضول الأطفال دفع الآخر لسؤالي: (وليش مانك لابسة أسود؟)،  فانتبهت الأم لولدها: (عيب ماما!).. وقبل أن تتم جملتها رن جهاز الموبايل في يدها.. فابتعدت قليلاً كي تجيب
وهنا سألتُ الطفل نفسه: (من إيمتا الماما لابسة أسود؟) فقال لي: (من زمان، من قبل ماتمرض التيتي لبست الأسود مشان بس يرجع البابا يلاقيها ومايضيعها… والتيتي كمان لبست أسود لأن في امهات كتير، وبتخاف بس يجي البابا ما يلاقيها).. قال الطفل الآخر: (نحنا مابيصير نلبس أسود.. البابا بيلاقينا بدون ما نلبس أسود.).

 لم أستطع التكلم بكلمة واحدة.. هززت رأسي وقلت في قلبي: الله يرحمه!

عاد الولدان للدوران أحدهما حول الآخر، واللعب بمرح لا مثيل له.. أما والدتهم فقد أنهت مكالمتها وعادت للوقوف.. وعاد الصمت يخيم على المكان، حتى قطعه مجيء السيرفيس.. الذي كان يحوي مقعدين فارغين فقط..
صعدت المرأة وطفليها، وبقيت منتظرة، متوحدة مع شمس الصباح، وأخاطب نسمات الهواء:.. متى يعود الرجال إلى أولادهم دون سواد يميز نساءهم وأمهاتهم؟

 

العدد 1104 - 24/4/2024