عبد الرحمن منيف… عبقرية دون مديح

مسيرة أدبية حافلة بالأفكار الكبيرة والأدب الرفيع. ولأنه كذلك اكتشف المهمين في الحياة باكراً واكتشفوه أيضاً. وعبد الرحمن الأديب لا يبرز على مسرح الحياة عبر الأدب وحسب، وإنما هو قبل ذلك كان إنساناً كبيراً (ومذ كان جنيناً في بطن أمه).. هكذا يرشدنا علم النفس وعلم الوراثة إلى أن مكونات الشخصية للفرد لا تخلقها البيئة وحدها، وإنما هناك جذور بعيدة تساهم مساهمة كبيرة في تكوين الشخصية ضمن مجاليها المتعارضين. وأضيف أن شخصية الفرد لا تتكون من خطين متعارضين وحسب، وإنما هناك خطوط عديدة ومتعددة تتصارع وتتلاحم في كل جانب من الجانبين، وهذا ما يؤكده قبلي الكاتب الأوربي هيرمان هسه، في روايته الشهيرة (ذئب البوادي).

 

عبد الرحمن منيف قبل أن يكون أديباً كان سياسياً مواكباً لأحداث الستينيات وما قبلها. ولا تقتصر تلك المواكبة على المتابعة ومراقبة الأحداث فقط، وإنما كان مساهماً وفاعلاً أيضاً. ولأن عبد الرحمن منيف صاحب نظرة ثاقبة فقد اكتشف الخيبات السياسية مبكراً، فكتب روايته المعقدة (حين تركنا الجسر). ولأن عبد الرحمن منيف ضد القمع والاضطهاد فقد كتب روايته الواسعة الانتشار (شرق المتوسط). ولأن عبد الرحمن صاحب نظرة دقيقة وفاحصة للكتّاب اتخذ من جبرا إبراهيم جبرا صديقاً، فكتبا عملاً روائياً مشتركاً ومميزاً وهو رواية (عالم بلا خرائط).

وفي رواية (النهايات) يبدو للقارئ أن الأجواء الصحراوية هي الإطار الحقيقي للرواية، إلا أن البعد الرمزي لها المتمثل في خطاب بطلها عساف يدل على حكمة عبد الرحمن منيف في مواجهة (الرقيب القاسي). وهو بذلك استطاع أن يوصل أعماله إلى القاصي والداني، على الرغم من أنه عرض العديد من القراء لخسارة الأفكار المهمة والعميقة بسبب ما لفها من الغموض والترميز، كما كان ذلك في رواية (حين تركنا الجسر). ورواية (سباق المسافات الطويلة) هي الأخرى تكتمت بما رصدت من الأحداث السياسية المهمة، إلا أن هذا كله كان مفروضاً على الكاتب بحكم الظروف القاسية على الرغم من شجاعته المميزة.

عبد الرحمن المنيف لا يتوقف عند كتابة الرواية المهمة والجميلة وحسب، وإنما هناك كتابات أخرى لم يقتصر بها على الفنانين الذين صادقوه ورافقوه، بل كتب عنهم وعن أعمالهم أجمل الكتابات. وإلى جانب هذا كان مدركاً للتاريخ ومتعمقاً فيه. وإن روايتيه الملحميتين، (أرض السواد) و(مدن الملح) هما أحسن دليل على توغل هذا الكاتب في التاريخ العربي القديم والمعاصر. وعبر عن هذا التوغل في كتابات خارج الإطار الروائي، ولعل بعضها هو ما كتبه عن المرحلة العربية التي أعقبت الثورة العربية الكبرى، وتجلى ذلك فيما تعلق بالتقديم لبعض الكتب التي تتعلق بتلك المرحلة. وأرجو ألا تخونني الذاكرة إذا ما ذكرت كتاباً يتعلق بالمستشارة الإنكليزية الميس بيل.

وكان عبد الرحمن منيف طيباً ووفياً للناس والقلم، فلا يهمل الوفاء لمن رافقوه أو زاملوه في الخمسينيات أو الستينيات، ولربما في غضون إحداها تعرف المناضل الشنقيطي (عروة الزمان الباهي).

والباهي هو كاتب ومناضل من المغرب، وقد أدهش بسلوكه المميز عبد الرحمن المنيف. وكتب عنه المنيف كتاباً جميلاً يعد رمزاً للوفاء وللصداقة العظيمة. تلك الصداقة البعيدة عن جميع المصالح ومغريات الحياة. يقول الباهي في الكتاب الذي كتبه عنه عبد الرحمن منيف: (إذا كان العقل زينة الإنسان، والصفة التي يدَّعي أنها تميزه عن المخلوقات الأخرى، وإذا استطاع الإنسان أن يروض الحيوان ويخضع الطبيعة ويسخرها لمنافعه، فلماذا تحول إلى عدو لنفسه، لبني جنسه؟ لماذا يصر على الانتحار أو قتل الآخرين مجاناً؟ كيف يستطيع أن يكون قاسياً، أنانياً هكذا، ولماذا يأبى إلا أن يبقى صغيراً هكذا؟! وهل هو يتمتع بالقدرة على المحاكمة والوصول إلى أفضل الحلول لنفسه، لنوعه فعلاً؟!).

أجل، هذا هو عبد الرحمن منيف، الكاتب والمناضل والإنسان، عاش كما يجب أن يعيش نظيفاً، نزيهاً، مستقلاً تماماً وتماماً، فلا يتبع لهذه الجهة أو تلك. ولا يتملق هذا الرجل أو ذاك، إنه حر بكل ما تعنيه الكلمة، وغير تابع لا لليمين ولا لليسار، وكان رغم هذا الوقار العنيف يأبى أن يعيش في الوسط!

العدد 1107 - 22/5/2024