في الـذكرى المئة لمراسلات وعـد بلفور 1915-2015 من التقسيم إلى التقسيم (1)

 (المسـار الذي أدى إلى تصريـح بلفـور، من كونه غير قابل للتحقق ومليئ بالتناقضات، والخدع، التبريرات الخاطئة، والرغبات غير الواقعية، زرع أنياب التنين… فأنتج حصاداً إجرامياً، ونحن نواصل الحصاد حتى هذا اليوم). (Jonathan Schneer, 2011. ص376).

عقب المراسلات الموثقة بين الشريف حسين وهنري مكماهون، ممثل ملك بريطانيا، في مصر التي بدأت عام ،1915 تعتبر الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917 إلى اللورد ليونيل روتشيلد، رجل الأعمال وعضو في البرلمان البريطاني وأحد زعماء الحركة الصهيونية وصديقاً مقرباً لحاييم وايزمان، والتي عرفت فيما بعد باسم (وعد بلفور)، أول خطوة عملية اتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على أرض فلسطين. وتبعها في 24 تموز 1922 صدور وثيقة صك الانتداب عن عصبة الأمم، وتضمنت مقدمة الصك نص تصريح بلفور ومصادقة عصبة الأمم على انتداب بريطانيا لفلسطين، وفي مواد النص العديد من الدعوات لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولقد اعتبر الصهاينة النص بمثابة مصادقة دولية على وعد بلفور، ذلك أن الوعد كان بريطانياً أما الصك فكان دولياً. والآن في عام 2015 يبدو المشهد كما لو كان قبل مئة عام؛ تهويد القدس وحصار غزة حصيلة لأثمان دولية كبرى تتحضّر لإعادة صياغة جديدة لحقوق القضية الفلسطينية.

الجذور الدولية وتوقيت صدور إقرار بلفور

تشارك الحليفان في الحرب العالمية الأولى بريطانيا وفرنسا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تقسيم منطقة بلاد الشام والعراق الواقعة ضمن الخلافة العثمانية،. واتفاق التقسيم كان في نهاية شهر نيسان 1916. لكن بعد شهر تقريباً، جرى إشراك روسيا القيصرية في هذه الخطة بحيث اتفقت الأطراف الثلاثة على اقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية لكل واحد منهم، وكانت روسيا تطمح في قوننة دولية لحريّة العبور من مضيقي البسفور والدردنيل. وجرى تبادل المذكرات بين الأطراف الثلاثة في العاصمة الروسية القيصرية سانت بطرسبورغ إذ مثّل الطرفان الأوربيان الغربيان سفيراهما في روسيا ومثّل الطرف القيصري وزير الخارجية زازانوف.

وعبر استغلال المشاعر القومية، هدف الإنكليز إلى تأجيج ثورة عربية في المشرق العربي تُشغل السلطنة العثمانية عن الحرب ضد الإنكليز في مصر، وتُربك الألمان حلفاء الباب العالي، وإبعاد القوات العثمانية المعادية للإنكليز عن المنطقة الاستراتيجية لها في المناطق المتاخمة لقناة السويس وطريق التجارة والمواد الخام من الهند وجنوب شرق أسيا. هكذا استغلّ الإنكليز النزعة التحررية، وصنعوا (الثورة) العربية، ونجحوا في تحييد السلطنة أول الأمر ثم في إرباكها وإخراجها من حلبة الصراع الدولي والإقليمي نهائياً عام ،1916 أي قبل عام من إقرار بلفور.

كان على الألمان أن يردوا بالمثل. فاعتبر القيصر الألماني أن عليه تأييد الثورة الشعبية في روسيا، على غرار تأييد الثورة العربية في الدولة العثمانية. إذ إن نجاح ثورة مفتعلة في روسيا سيوقف الحرب على الجبهة الألمانية، مما سيجعل الأعباء الحربية الألمانية، لا محالة تتركز على الجبهات الأخرى.

لن نتبنى وجهة نظر بعض الدراسات التاريخية عن علاقة الزعيم لينين برجال المخابرات الألمانية من عدمها. قد تكون أحداث غير حقيقية وغير موثوقة، أو قد تكون من البث المعنوي للآلة الإعلامية البرجوازية على الثورة البلشفية. ولكن، مهما يكن من الأمر، فإنه من الموثق بأن لينين كان يعيش خارج روسيا، وكان يتنقل ما بين ألمانيا وسويسرا والنمسا وغيرها من البلدان المتاخمة لروسيا القيصرية، فيتفقّد الثوريين، ويصحّح في التنظيم، ويبشرهم بقرب انتصار البروليتاريا، ويعدّ العدّة للانتقام لمأساة ثورة 1907 الفاشلة. ونحن إذ لاننكر عظمة الثورة البلشفية وتأثيراتها المستقبلية المدوّية ولكن، يهمّنا أن نلقي الضوء على أن الألمان سهلوا مهمة دخول لينين إلى روسيا على متن قطار مزدحم بالبلشفيين اللاجئين في أوربا، كما ساعدت ألمانيا بشكل متواصل نشاطاته وزملاؤه، في الأحداث المؤدية إلى استمرار الثورة البلشفية. التي اندلعت في العاشر من شهر تشرين الأول عام ،1917 وأفضى هذا بالضرورة إلى وقف العمليات العسكرية علي الجبهة الألمانية، وتوجت عقد اتفاقية وقف إطلاق النار معها وسحب الجيوش الروسية من الجبهة الألمانية، كي تتفرّغ للثورة الحمراء، ولمقاومة عصابات الروس البيض التي انتشرت في وسط روسيا وجنوبها من جهة أخرى. في هذا الوقت كان الوضع الميداني العسكري بالنسبة إلى حلف (الوفاق الثلاثي) المكوّن من بريطانيا وفرنسا وروسيا، سيئاً بما فيه الكفاية لتحقيق انتصار حاسم على التحالف الثلاثي الذي كان يضم الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، ثم الإمبراطورية العثمانية ومملكة بلغاريا. خاصة أن قيادات الثورة البلشفية في روسيا كانت تنحو نحو توقيع معاهدة سلام منفصلة مع ألمانيا والذي يعني نظرياً هزيمة بريطانيا وفرنسا في حربهم الدائرة، فجاء (تصريح بلفور) في العام نفسه بخروج روسيا من الحرب، وهو الخطوة التي اعتبرتها الخارجية البريطانية، وسيلة لكسب يهود العالم والولايات المتحدة ضد ألمانيا. هكذا أعلنت الحكومة البريطانية رسمياً في الأول من نيسان عام ،1917 أن الحلفاء أضحوا غير قادرين على الوفاء بالتزاماتهم المالية نحو أمريكا مقابل ما كانوا يشترونه منها من المواد التموينية الاستهلاكية. وهذا كان بمثابة إعلان رسمي بإفلاس حكومات دول الحلفاء.

جاء بلاغ بلفور من طرف بريطانيا في 2 تشرين الثاني عام 1917 بمثابة المراضاة لليهود في جميع أنحاء العالم، ومنهم يهود أمريكا الذين كان بوسعهم التأثير على النواب والشيوخ للسماح للرئيس وويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى. وهذا ما حدث، ونتيجة للضغط اليهودي في أمريكا، تأسّس مجلس الحرب الأعلى بتاريخ 7 تشرين الثاني عام ،1917 أي بعد خمسة أيام فقط من إقرار مجلس الوزراء البريطاني بلاغ بلفور. وبذلك تكون أمريكا قد دخلت الحرب فعلياً إلى جانب الحلفاء بدلاً من روسيا القيصرية التي انكفأت للداخل بفعل الثورة البلشفية. وبذلك أيضاً، أزالت بريطانيا عن كاهلها الجهد العسكري نحو الولايات المتحدة. هنا نتساءل: هل كان سعي الولايات المتحدة إلى إخراج إيران وروسيا في الوقت الحاضر من منطقة الشرق الأوسط بالقرار 1701 في لبنان، ثم إغراق العراق وسورية في حربها مع الإسلاميين الأصوليين دخول جديد للولايات المتحدة عبر بوابة حصار غزة وتهويد القدس في مسعى لدفن القضية الفلسطينية عبر إذعان سياسي ما ليكون المرحلة ماقبل الأخيرة قبل إعلان الوطن البديل للفلسطينيين؟. الجواب هو ماسيحمله عام 2015 من تداعيات الأزمة السورية بعد دخول القوات الروسية إلى أراضيها، ومنعكس ثورة السكاكين الفلسطينية؟.

العدد 1107 - 22/5/2024