ساعي البريد يأتي مرتين!
إذا كان قدر البشر العاديين أن يواجهوا بمرارة التحدي الذي يفرضه الموت على كل منهم، فإن الشعراء والمبدعين في وجه عام يواجهون تحديين اثنين في وقت واحد: الموت الجسدي والموت الإبداعي. قد يكون الموت الأول هو الأكثر ضراوة بالنسبة إلى سائر الناس، باعتباره يضع حداً للحضور الإنساني بأكمله. ولكن التوقف عن الكتابة والعطاء الإبداعي بالنسبة للمبدع لا يقل إيلاماً عن توقف الحياة نفسها.لا بل إنه من بعض وجوهه الأكثر صعوبة والأكثر مدعاة لليأس والرعب. فالموت يأتي دفعة واحدة يحل بعدها السكون المطبق والعدم، إنه السكينة التي لا يرافقها ألم ولا يصطحبها توتر وعذابات. في حين أن الألم الذي يصحب العقم الإبداعي يدفع صاحبه إلى الشعور بالاضمحلال والموت وفقدان الجدوى، إضافة إلى شعور بالسخط والتبرم والعدوانية المفرطة.
إن الكاتب الذي يكف عن الكتابة يشعر فجأة بأنه فقد سلاحه الأمضى في وجه العجز والموت. فالكتابة في جوهرها تحايل على الموت.إنها نوع من اللقاح الذي يحصن الروح ضد جرثومة الزوال، ويمنح الجسد مناعة أقوى في وجه الرياح العاتية للغياب والتلاشي. وحين يفقدها الكاتب يفقد معها إحساسه بالثقة والتوازن، بقدر مايفقد جوهر وجوده بالذات. إن وضعه من هذه الزاوية أكثر مأسوية وخطورة من وضع الإنسان العادي الذي يكيف نفسه في الأصل مع فكرة الموت ويتقبل الحقائق الكونية الثابتة برضا واستسلام كاملين. في حين أن الكاتب المهدد بالأصل بالمخاوف والشكوك يجد فجأة أن حصانته المتوهمة قد انتزعت منه، وأنه لم يعد يملك أي امتياز في مواجهة مصيره العاصف وغربته الموحشة.
وقد عبر فيلم (اللمعان)، الذي قام ببطولته جاك نيكلسون في سبعينيات القرن الماضي، عن الهاوية التي يمكن أن يصل إليها الكاتب الذي تخونه الكتابة. إذ يتحول بطل الفيلم شيئاً فشيئاً إلى كائن مريض ومنفصم ومسكون بالشياطين، وينتهي به الأمر إلى الهجوم بالفأس على زوجته وطفله الوحيد اللذين نجَوا بأعجوبة من جحيمه العدواني.
وإذا كان التوقف عن الكتابة ليس السبب الوحيد لانتحار خليل حاوي في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنه كان أحد الأسباب الرئيسية التي أوقفت مشاعر الانبعاث القومي المجهض. فحاوي الذي أعطى في قصيدته الرائدة (لعازر1962) أحد أجمل نماذج الحداثة الشعرية العربية، وجد نفسه بعد سنتين من القصيدة تلك شبيهاً ببئر فارغة لا تُعْوِل فيها سوى رياح الخرس. وحين أصدر في مطلع السبعينيات مجموعتيه الأخيرتين: (الرعد الجريح) و(من جحيم الكوميديا) بدا شعره بلا عصب ولا حيوية، وبدت عودته إلى الكتابة شبيهة بعودة لعازر الباردة من الموت، حتى إذا ما أضيفت إلى خيانة الشعر خيانات أخرى في حياة حاوي فإنه لم يجد مخرجاً من عذاباته المبرحة سوى رصاصة وحيدة في صدغ الرأس.
أما نجيب محفوظ، أحد أغزر الكتاب العرب وأكثرهم تنوعاً وثراءً، فإن الكتابة في المقابل لم تُسلِس له قيادها طوال الوقت، بل تحولت إلى فرس حرون شديدة التمنع والمشاكسة. فهو يروي في حوار طويل مع جمال الغيطاني أنه أصيب بالسكتة الأدبية لمدة خمس سنوات كاملة في بداية الخمسينيات. وقبل كتابته الثلاثية المشهورة بقليل يعترف محفوظ في تلك المقابلة بأنه بات شبيها بكهف مهجور، وبأنه بات عاجزاً طوال سنوات عن كتابة سطر واحد، الأمر الذي أوقعه في الحيرة والقلق تجاه مستقبله الأدبي. وهو في تبريره اللاحق لما حدث يرى أن الإنجازات العظيمة لثورة الضباط الأحرار في مطلع الخمسينيات بدت كأنها تجيب عن كل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها رواياته، أو كأنها الحلم الذي تطرحه الكتابة على نفسها، وقد تحول إلى واقع ملموس ومرئي.
وقد تكون المشكلة لدى الشعراء أكثر ضراوة وهولاً مما هي عليه لدى الروائيين وغيرهم من المشتغلين بالكتابة. ذلك أن الزمن الرائي لا يرتبط بحقبة بعينها من العمر، بل هو يشتعل ويتوقد مع فترات النضج والتقدم في السن. فالرواية تتغذى من الذاكرة والسرد الاستعاري، وهي تالياً تحتاج إلى الكثير من الخبرات والتجارب والعقود المتراكمة. لذا نجد أن أفضل ما ينتجه الروائيون في الغالب، عدا استثناءات قليلة، يتم بعد الأربعين وفي متوسط العمر وما يليه من مراحل. في حين أن الشعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدورة الدم ونبض القلب وحرارتهما الداخلية وتوتر الجسد. إنه تعبير انفجاري متدفق وناري، وهو يعتمد تالياً على النضارة والحيوية الجسديين، إضافة إلى نضارة الروح وحماستها الداخلية. ولأن الزمن الشعري زمن ناري بامتياز فهو ينقلب بسرعة رماداً، شأنه شأن كل ما يشتعل. لهذا لن نحس بالغرابة حين نجد شاعراً كبيراً مثل رامبو يتوقف عن الكتابة في مطلع العشرينيات، أو شاعراً كخليل حاوي يصمت في أول أربعينياته. في حين أن الكثيرين ممن أصروا على المتابعة بمكابرة لافتة لم يفعلوا شيئاً يذكر بعد منتصف العمر سوى تكرار ما كتبوه من قبل بشكل رتيب وباهت. وإذا كان بعض الشعراء، وهم قلائل، يزدادون توهجاً ونضجاً وحيوية مع الزمن، فإن حال الكثرة الغالبة ليست كذلك على الإطلاق.
وتجدر الإشارة هنا إلى الأنطولوجيا الأولى من نوعها في العالم العربي التي أنجزتها الشاعرة اللبنانية جمانة حداد (2007م) في هذا الخصوص بعد كتاب (الشعراء الملعونين (الذي أصدره بول فاليري! (1884م) عنونته (مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين، من بينهم خمسة عشر شاعراً وشاعرة من العالم العربي، إضافة إلى خليل حاوي – أمل جنبلاط – منير رمزي (مصر)- عبد الباسط الصوفي (سورية)- أنطون مشحور (لبنان )- تيسير سبول (الأردن)- عبد الرحيم أبو ذكرى (السودان)- صفية كتو (الجزائر ).. وآخرون.
وهو الكتاب الأول الذي جمع شعراء انتموا إلى مناطق جغرافية مختلفة ومدارس وأجيال شعرية وتيارات مختلفة. إلا أن جواً وجودياً جمعهم فكان الموت أو صفته.