في الذكرى المئة لمراسلات وعد بلفور 1915-2015 من التقسيم إلى التقسيم (2)

 لقد تنبّهت بريطانيا، إلى الخطر الذي سببه خروج روسيا الحليفة من الحرب، وأن هذا الأمر سيضاعف الخطر على التحالفات في المستقبل. فالبلشفية الآن عامرة بالنفوذ اليهودي، وكثير من اليهود من أصول روسية أو أوربية متعلقة بالروس البلشفيّين. هذا سيؤثر بالضرورة على سائر اليهود في العالم، وخصوصاً في الأماكن التي نظّموا أنفسهم فيها تنظيماً عالي المستوى كما في الولايات المتحدة الأمريكية. إذاً على الحلفاء الأوربيين أن يسارعوا إلى مراضاة اليهود في العالم لدرء الخطر القادم من نفوذ اليهود في الثورة البلشفية، أولاً، ولاستغلالهم في التأثير على أمريكا ثانياً، لتكون البديل العسكري عن روسيا، الضغط على ألمانيا. كانت الولايات المتحدة مشتركة لوجستياً فقط، لكن المطالبة الآن هي اشتراك الولايات المتحدة بالعمليات العسكرية فعلياً. من سيقنع الأمريكيين في مجلس النواب ومجلس الشيوخ بدخول الحرب فعلياً وزجّ الجنود الأمريكيين ليقاتلوا إلى جانب الحلفاء في حربهم الاستعمارية؟ من سيؤثر على المشرّعين الأمريكيين ويحوّلهم من الدعم اللوجستي إلى العمل العسكري؟ إنها الفئة الأكثر تماسكاً وتنظيماً وتغلغلاً في طبقات النواب والشيوخ… إنها المؤسسة اليهودية.

في الفترة الأولى من الحرب الأولى، كان الشعب الأمريكي يرفض بشدة ممثلاً بمجلس النواب (الكونغرس) ومجلس الشيوخ (السيناتور)، الدخول في الحرب الأوربية. وقد جهُد الرئيس ويلسون في إقناع هذين المجلسين المنتخَبين. لكنه لم يفلح. وكان أقرب ما توصل إليه الرئيس ويلسون بالضغط على هذين المجلسين هو إعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا وحلفائها في 3 شباط عام 1917. وساءت العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا، بعد أن أصبح توريد السلع والبضائع إلى بريطانيا وحلفائها من قبل الولايات المتحدة علنياً. وبلغت أشدها بعد إغراق عدة سفن أمريكية تجارية متجهة إلى أوربا من قبل الغواصات الألمانية. ورغم هذه الحرب البحرية غير المعلنة، حاول الرئيس ويلسون إقناع المجلسين (النواب والشيوخ) بدخول الحرب عسكرياً، ولكن ذهبت محاولاته أدراج الرياح. بيد أن الأمور تغيرت عندما أعلن الحلفاء إفلاسهم المالي في الأول من نيسان عام 1917. هنا، اجتمع الكونغرس الأمريكي وأقرّ خطة الرئيس لإعلان الحرب؛ ثم اجتمع مجلس النواب وأقرّ إعلان الحرب على ألمانيا. غير أن الرئيس ويلسون كان قد اضطر إلى استعمال حقه قائداً للقوات الأمريكية عندما لم يستطع إقناع مجلس الشيوخ بالتصويت لصالح سياساته الحربية في أوربا، فأعلن الحرب علي ألمانيا في 4 نيسان ،1917 بعد ثلاثة أيام من إعلان الأوربيين إفلاس حكوماتهم! وهو ما أرادته بريطانيا وحليفاتها.

من الجدير هنا التذكير بشخصيتين يهوديتين، صهيونيتين في تلك الحقبة، كانتا متنفذتين في أعلى مراتب السياسة والحكومة الأمريكية. وهما لويس ديمبتس برندايس وفيلكس فرانكفورتر، فقد شغل الأول منصب كبير القضاة في مجلس محكمة العدل العليا الأمريكية منذ عام 1916 وحتى عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. ومنصب كبير القضاة منصب هام في الهيئة التي يلجأ إليها المشرّعون والتنفيذيون لتقرير مدى هيمنة أي جهاز حكومي أو أهلي في البلاد، ولفض النزاعات السياسية والتشريعية بين الأفراد والجماعات والهيئات الرسمية والأهلية، وبالتالي كان برندايس قوة صهيونية مؤثرة في قرارات أية جهة. أما الشخصية الثانية، فيلكس فرانكفورتر، فشغل منصب المستشار السياسي للرئيس الأمريكي ويلسون، وتنقّل في مناصب استشارية وحكومية عديدة إلى أن استلم الراية من برندايس فحلّ محلّه في محكمة العدل العليا.

وتشير بعض الوثائق إلى أن القاضي الصهيوني برندايس قد راجع صيغة وعد بلفور قبل صدورها وعدّل فيها وبدّل بما يلائم أطماع الصهيونية. على سبيل المثال، هو الذي غيّر لفظة العرق اليهودي the Jewish race إلى الشعب اليهودي the Jewish people، كي يترك لليهود مجال الحرية في الانقياد إلى فلسطين أو البقاء في أوطانهم. كما أنا فيلكس فرانكفورتر، كان في أعلى منصب قضائي في الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس ترومان التي حصل فيها قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني 1947. إذ أحالت حينها الحكومة البريطانية، في نيسان ،1947 ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة وأعلنت أنها تعزم على إلغاء انتدابها في مهلة أقصاها 15 أيار 1948. وفي 28 نيسان شهدت منظمة الأمم المتحدة لأول مرة فتح ملف قضية فلسطين. في 29 تشرين الثاني 1947 عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعاً وجرى التصويت على مشروع كان قد قُدم مسبقاً بشأن تقسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وقف إلى جانب التصويت 33 دولة، بضمنها الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، وفرنسا. وصوت ضد القرار 13 دولة بضمنها جميع الدول العربية وامتنع عن التصويت عشر دول، بضمنها الصين. والمشروع يقسم فلسطين إلى دولتين يهودية وتشمل 4,56 % من أراضى فلسطين وعربية تشمل 46,6 % من أراضي فلسطين، مع العلم أن العرب حينها كانوا يملكون 94,4 % من أراضى فلسطين، واليهود كانوا قد استوطنوا في 5,6 % من أرض فلسطين… رحّب اليهود بالقرار وأعلن العرب الثورة المسلحة ضد تنفيذ المشروع. وفي عام 1950 صدر قرار بحماية الدولة الصهيونية (البيان الثلاثي الذي طالب بحماية جميع الحدود السياسية في منطقة الشرق الأوسط عام 1950).

العدد 1105 - 01/5/2024