دعد حداد.. زهرة الثلج الحالمة

قليلة هي التجارب الشعرية النسوية التي شكلت حالة استثنائية متفردة في مسيرة الحركة الشعرية في سورية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل من هذه التجارب تلك التي رسمت ملامحها الشاعرة دعد حداد، على الرغم من أنها لم تحصل على حقها في النقد والتقييم.

ولدت الشاعرة دعد حداد في اللاذقية عام  1937 في بيت يهتم بالأدب والفن، وكانت قارئة نهمة اطلعت على الأدب الغربي الذي ترك آثاره الواضحة على شعرها، وقد عبّرت عن انغماسها الدائم بالقراءة حين قالت:  (كثيراً ما أحتار بين شراء كتاب أو وجبة طعام، لكنني أذهب إلى الكتاب). بدأت مسيرتها الأدبية بكتابة الشعر الموزون بمكوناته الكلاسيكية، إلى أن حرَّرت أبياتها من بحور الشعر والأوزان لتنطلق في فضاءات الشعر الحر وقصيدة النثر.

أصدرت ديوانها الشعري الأول (تصحيح خطأ الموت) عام 1981 الذي كان ثمرة حزنها العميم الذي خلفته وفاة أختها الشاعرة نبيهة حداد، ثم أصدرت عام 1987 ديوانها الثاني (كسرة خبز تكفيني)، وديوانها الثالث والأخير (الشجرة التي تميل نحو الأرض) صدر بعد وفاتها ببضعة أشهر عام 1991.

كانت دعد غزيرة الكتابة، فقد كان الشعر لها خبز الحياة اليومي، ومن اللافت أن الكثير من قصائدها مؤرَّخ في أيام وليالٍ متقاربة، ومعظمها يحمل توقيتاً ينتمي إلى دقائق الفجر الأولى، كما كانت القصيدة لديها وليدة مخاض الحزن والمرارة والكآبة، إذ تقول: (تولد القصيدة عندي إثر حالات توتر نفسي حاد مرفقة بهواجس وعذابات تشبه غصّة الدمع وانحباس الضحكة اليائسة… في هذه الطقوس النفسية الفظيعة يولد عندي النص الشعري، ويعقبه تعب مسرّ، ثم تخفّ عندي حالة الحزن المريرة، وأشعر بهدوء نفسي نسبيّ… يبدو أن الشعر يغسلنا من مرارة الأحزان…). وفي نظرة  معمقة إلى أبيات دعد حداد، نجدها كالطيور المرسلة في فضاءات واضحة ومحددة، هي فضاء مصطلحات الطبيعة، وفضاء مصطلحات الموت، وفضاء مصطلحات الحياة. ففي فضاء مصطلحات الطبيعة احتضن شعرها الطيور والماء والزهور والتراب والغبار والثلج والحجر والفجر والأشجار والريح والليل والربيع، أما في فضاء مصطلحات الموت، وهو الأرحب في شعرها، فنجدها ترثي نفسها وتودع الحياة والناس بحب صاف، وكأنها هي نفسها الشجرة التي تميل نحو الأرض بطواعية مطلقة، إذ لم يشكل الموت لديها شبحاً مرعباً بل نقيضاً للحياة وبداية لطريق طويل نحو المجهول، فرصّعت قصائدها بومضات لتوابيت وقبور بيضاء ورخام بارد، ليأتي في المقابل فضاء مصطلحات الحياة الذي غص بأطياف الغناء والفرح والحرية والبكاء والموسيقا والضوء والبكاء. وقد لا تخلو قصيدة من قصائد دعد حداد من تلاحم فضاءاتها تلك، فهي تقول في قصيدتها (الطائر والزهرة): (الحب طائر غريب/ يودّ أن يعيش في سلام/ لكنّه في رحلة/ يجابه الضياء والغبار، والمطر/ وتلمس الزهور دمعة الحبيس/ تمدّ عنقها، تلامس الزغب/ أريد أن أطيرَ مثلما تطير/ لكنّ لي في الأرض هاهنا جذور/ تشدّني لغايتي/ أودّ لو أطير، أن أطير/ أن تكون مهنتي الخطر). وتقول أيضاً في قصيدة (هاهي أجراسي): (استيقظوا الآن/ أنا وحيدة/ هاهي أجراسي وتوابيتي/ هاهو بساط رحمتي الأحمدي/ هاهو قلبي المفتوح/ ونوافذي المشرعة/ وستارتي مزقتها الريح). يشكل الحب في قصائد دعد حداد حالة غير معهودة فهو بوتقة يذوب فيها العشق مع الحرية والتشرد والأحلام الباكية، وقد أخرجته دعد حداد من أسوار الحالة الوجدانية العاطفية الثابتة إلى مروج قد تشق فيها سنابل الهوى صلابة الجليد، فتمد أعناقها بنقاء، وتتعمد في تواصل حميم بحرائق الألم وانتظار المجهول، ضمن مشهد فني متعدد الأبعاد يكاد يقترب من اللوحة التشكيلية أو اللقطة السينمائية، ففي قصيدتها (الحب) تقول: (هذا الصباح اكتبوا عن الحب/ هذا الصباح اكتبوا عن الفرح/ ليس لأن اليوم عيد/ أو مناسبة هامة/ ليس لأن اليوم عطلة/ الغيرة في شبابيك الصبايا، كالورود/ منقوشة على المزهريات والأثواب والشالات/ الحب مسودة ممزقة/ وسلالم موسيقية).

كتبت دعد عدداً من المسرحيات وقصص الأطفال إلا أن الشعر كان حبها الأول والأخير. وقد انعكست مواهبها المتعددة من رسم ونحت وعزف أجنحةً ارتقت بها قصائدها إلى عوالم سحرية تحمل من الجنون الشيء الجميل، مما يجعل قارئ شعرها يدخل في مؤامرة ضمنية غير معلنة مع الكلمات في سبيل العبور إلى مجرّاتها التي يخرج منها عبر بوابة الأمل بفجر جديد.

 وإذا كان الموت قد غيّبها عام ،1991 فقد تركت إرثاً إبداعياً وتجربة شعرية نادرة، فكّت من خلالها ضفائر قصيدة النثر، لتتطاير خصلها النورانية عبر كون شعري فسيح لا مكان فيه للضوابط والأغلال، وظل الحب يرفرف وحيداً حزيناً في رحلة تفصل بين الحياة والموت، بما تخبئه كواليسها من طقوس خلّدتها.

العدد 1107 - 22/5/2024