بورصة الدولار والمعيشة

 سنوات الحرب ما زالت تمارس طغيانها وظلمها متخطية كل الحدود الإنسانية في بلادنا الغارقة بقرارات حكومية زادت الواقع الاجتماعي والخدمي سواداً وسوءاً فوق سوء، إذ تحكمها السوق السوداء ودولارها الأسود الذي وصل إلى حدود 400 ليرة سورية هذا الأسبوع، رافعاً معه كل السلع الأساسية التي تعتبر الشريان الرئيسي للحياة ، الفقر تخطى حدود الفقر وأصبح الجوع سيداً يصطاد الأطفال والناس الذين باتوا كالقطط الشاردة تبحث عن غذائها في حاويات القمامة، فالجوع كافر والروح ثمينة.

سيادة دولار (السوداء) والمركزي متأثر بموجة الصقيع:

شهدت الأسابيع الماضية ارتفاعاً حاداً جداً للدولار، فقد وصل سعره إلى حدود 400 ليرة سورية رغم تدخلات البنك المركزي الذي يعلن عنها يومياً تقريباً في وسائل الإعلام وتراوح فيها سعر الدولار بين 346,66 ليرة سورية (سعر وسطي للمصارف) و346,72  ليرة (سعر وسطي لمؤسسات الصرافة)، حسب نشرة أسعاره 4/12/،2015 أما واقع سوق صرف الدولار في المدن السورية فتجاوز ذلك بفارق كبير، فقد سجل سعر صرف الدولار  390 ليرة (شراء) و393 ليرة(مبيع) في التاريخ نفسه الذي ذكرناه. وفي جولة لنا في الشارع رصدنا آراء مختلفة حول ارتفاع الدولار، إذ قال لنا شادي.ع: ما يعانيه المواطن من سوء معيشة سببه تجارة الدولار الحاصلة فقد وصل الدولار إلى حدود 400 ليرة سورية في اللاذقية. وقد تساءلت الآنسة دينا.ق: أين دور المركزي؟ ولماذا لا تطبق أسعاره كما ينشرها يومياً في الإعلام؟ ولماذا لا يصرف للناس في مراكزه الخاصة؟ ولماذا لا يمارس سلطته على المصارف التي تبيع الدولار حسب السوق السوداء ومزاجها الخاص؟ حتى اليوم لم نر دوره في الحد من ظاهرة التجارة بالدولار. وبسؤالنا للدكتور سنان علي ديب، رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية عن الفوارق الكبيرة في سعر الصرف بين نشرة المركزي وواقع الصرف في المدن السورية صرح لنا قائلاً:

 للأسف الشديد لم تستطع السياسات النقدية التي اعتمدها ونفّذها المصرف المركزي من تكريسه ولا فرض شروطه، وإنما كان هو من يلهث خلف السوق السوداء، وقد تحدثنا مراراً عن العامل النفسي الذي لعب به من خلال أدوات مرتبطة بقوى مستفيدة من تطويل الأزمة واللعب بالدم السوري ووحدة الكيان السوري حتى لو كانت النتائج تجويع الشعب وتفقيره وإسقاط سورية اقتصادياً، بعدما فشل الإسقاط العسكري المسلح، وهناك كثير من الحوادث التي تدل على أن المصرف المركزي هو من كان يتبع السوق السوداء، هذا الوضع أفقد ثقة السوق بقراراته، وللأسف الشديد يعجز العقل عن التصديق أن 4 صفحات فيس بوك أو 4 شخصيات مرتبطة بمشروع هي من تلعب باقتصاد بلد وتفرغ البيئة الحامية لسورية، التي كرست الأزمة لديها الثقة بالجيش الوطني. ومن خلال هذه المعطيات نرى أن مواجهة الحالة النفسية وفرض أمر واقع جديد يتطلب أدوات جديدة بعيدة عن الأدوات النقدية، وتتلخص بنية صافية وإرادة قوية لاعتبار من يلعب بالدولار أخطر من أي إرهابي يحمل السلاح، وبالتالي جعل المؤسسة العسكرية هي المسؤولة عن مواجهة هؤلاء الإرهابيين، مثلما حدث عندما تجاوز الدولار حاجز 300 ليرة، فعندما تصدوا لهذه القوى الفاسدة هبط الدولار ليصل إلى حدود 120 ليرة، وكان استمر بالهبوط لولا قرار المركزي رفع سعر دولار التصدير 10 ليرات، فكانت هذه نقطة الانطلاق القوية نحو انخفاض الليرة السورية وارتفاع الدولار.

السؤال يبقى هنا برسم المركزي وحاكمه أين لجانكم المخصصة لمتابعة صرف الدولار في المصارف العامة والخاصة في مختلف المدن السورية؟؟ ولماذا لا يصرف المركزي للمواطنين الذين يريدون شراء الدولار بهدف السفر وغيره حتى لا يلجؤوا لمكاتب صرافة تتبع لتجار السوداء؟؟

معيشة المواطن السوري على لائحة (السوداء) ودولارها

في الأسبوعين الماضيين سُجلت ارتفاعات حادة للأسعار لم تحدث سابقاً، ويعزو الباعة وصغار التجار السبب إلى ارتفاع الدولار إلى عتبة  400 ليرة سورية خلال هذا الأسبوع، وبجولة لجريدة (النور) في الأسواق السورية رصدت من خلال متابعتها الارتفاع يومياً لأسعار بعض المواد وخصوصاً السلع الرئيسية للمواطن، فالزيوت والسمون مثلاً شهدتا ارتفاعاً جنونياً هذا الأسبوع لم تشهداه سابقاً، إذ تراوح سعر ليتر الزيت عباد الشمس بين 485و 575 ليرة، حسب الماركة، وزيت الصويا فتراوح بين 415و 450 ليرة سورية لليتر الواحد. أما السمون النباتية فقد تراوح سعرها بين 475 و575 ليرة للكيلو حسب النوعية، أما زيت الزيتون فقد وصل سعر الليتر إلى 1200ليرة سورية. لم تكن الزيوت والسمون وحدها في بورصة الارتفاع الجنوني للأسعار، إذ وقفت إلى جانبها البقول والحبوب إذ واصلت ارتفاعها، فأصبح سعر كيلو الفاصولياء اليابسة بحدود 500ليرة سورية، وكذلك العدس المجروش سجل ارتفاعاً جديداً بــ 535 ليرة سورية، أما اللوبياء فقد وصل سعر الكيلو إلى 700ليرة وكذلك الفريكة. وبسؤالنا لبعض الباعة في السوق عن هذا الارتفاع اليومي والجنوني قال لنا السيد مازن.ح: أغلب السلع محكومة بصرف الدولار اليومي لأنها مستوردة وتخضع تسعيرتها لسعر الصرف. أما السيد مصطفى.م فقال بأن من يتحكم بالتسعيرة هم التجار الكبار للسوق فكل يوم تختلف التسعيرة عن اليوم الذي يسبقه وهناك مفارقات كثيرة وتناقض بين الموجود وبين ما قيل، فأغلب السلع الموجودة وبالخصوص الزيوت والسمون هي صناعة سورية وليست مستوردة لتكون خاضعة لسعر الصرف، كما يقول التجار، وهذه الأنواع هي التي تشهد ارتفاعاً يومياً وجنونياً في الأسواق السورية.

 تابعت جريدة (النور) جولتها متوجهة للبعض المواطنين بسؤال عن رأيهم بارتفاع الأسعار وكيف يؤمنون معيشتهم اليومية، فقالت السيدة سمية: عن أي مواد وأسعار تتحدثون؟ هل بقي هناك سوق بالأساس ليشتري المواطن مؤونته الشهرية ليعيش بأقل حقوقه الإنسانية. أما وائل فقد قال: للأسف وصلت بنا الحكومة إلى طرق مسدودة وكأنهم يطبقون على المواطن بقراراتهم حكم الإعدام: لا كهرباء ولا ماء ولا حتى أبسط حقوق المعيشة، حتى لقمة العيش باتت تجارة حقيقية وسمّاً للمواطن. وكان للسيدة ميشلين رأي فقالت: هذا الفلتان في التسعير سببه عدم تطبيق الرقابة التموينية في الأسواق، فأين لجان التموين التي كانت تلعب دورها سابقاً؟ الناس لم يعودوا يحتملون أكثر، فالدخل لا يسد للمواطن ثمن فواتيره الشهرية فكيف سيعيش؟ أما أمجد فقال: لقد وصل الحال بالمواطن إلى الجوع وقد رأيت أطفالاً يفتشون عن فتات الخبز في حاويات القمامة ليأكلوا.. صحيح أننا نعيش حالة غير طبيعية بسبب الحرب ولكن يجب على الحكومة أن تعمل للشعب الذي قدم الكثير من التضحيات وبقي صامداً ولم يسأل عن أي شيء حتى اليوم، من حق هذا الشعب أن يعيش حتى بأبسط حقوق العيش الإنسانية، وعلى الحكومة المسارعة بمعالجة هذه الكارثة.

 تعددت الآراء واختلفت ولكن ما الحل؟ لذلك في مقالاتنا السابقة قدّمنا مقترحات كثيرة وطالبنا بتفعيل الجهاز الرقابي والتمويني على الأسواق ووضع سياسة تسعير تناسب المواطن ودخله الشهري، ولكن لم تعد وزارتنا ولا حكومتنا الكريمة ترى وتقرأ صفحات الصحافة ومطالب الشعب وأحواله، فهمّها بات منصباً على مشاريع سياحية لا جدوى منها في زمن الحرب سوى البذخ وهدر أموال الموازنات العامة على مشاريع تحتاج إلى عشر سنوات وأكثر كي تكون فعالة، وتهميش قطاعات إنتاجية تهم المواطن وتنعش السوق وتعيد للمؤسسات العامة فعاليتها وروحيتها السابقة التي حمت المواطن في ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته.

باتت معيشة المواطن السوري وتأمين لقمة عيشه أكبر همّ يؤرق حياته فلم يعد راتبه الشهري الذي لا يتخطى 65 دولاراً يكفي ثمن الخبز في زمن بات فيه الدولار سيد السوق والمجتمع وباتت الشوارع تعج بالباعة الأطفال الذين أصبحوا معيلين لأسرهم بعد أن سرقت منهم الحرب طفولتهم ومدارسهم، فأين نحن اليوم من عالم البشر والإنسانية؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ هل الحرب تتحمل المسؤولية أم التقصير الحكومي بواجباته تجاه الشعب؟؟

هذه صورة مجتمعنا الحالي: معاناة حقيقية تتلخص بأصغر مطلب للشعب الكادح وهو حقه في العيش بأبسط حقوقه التي منحه إياها القانون، فهل ترد الحكومة على مطالبه؟ وهل تعود التموين لممارسة عملها وضبطها للسوق؟؟ هل سنرى في الشهر الأخير من السنة الذي بدأ أول أيامه عملية تنظيف حقيقية تنظف رواسب الأحد عشر شهراً التي مرت؟ سننتظر.

العدد 1107 - 22/5/2024