الرمز عند المعري

كان الرمز وما زال أسلوب الكثيرين من الأدباء كتابَ أدب عام أو شعراء، فبه يحاولون المروق من سهام الصيادين، والهروب من عيون الغربان، تاركين للفقهاء والنابهين فرصة اكتشاف ما بين الرمز والرمز… وفي مرورنا اليوم على الرمز لدى أبي العلاء المعري ربما نكتشف أو نضيء زاوية من زواياه الأدبية التي لا تعد ولا تحصى.

وإذا ما خضت في الرمز الذي ذهب إليه في شعره، فلن تكفي عشرات الصفحات لعرضها، لذا سأكتفي ببعض مرموزاته التي بدأها صغيراً حين رمّز للدنيا النتنة ب (أمّ دَفْر)، وأخذت رموزه مأخذ المنهج في اللزوميات حيث تفنّنَ بالترميز سواء بالحروف أو النجوم أو الحيوان،فلو أخذنا بيته التالي:

أغارَتْ عليْهِم خُيُولُ الزمانِ

كأنَّ خُيُولَهُمُ لَمْ تُغِرْ

فما الذي ذهب إليه المعري من خيول الزمان؟ ولماذا؟ فأن تُغيرَ الخيولُ، فهذا الأمر بأمر فارسها، أمّا أن تكون خيول الزمان، فيفهم من ذلك أنّه يقصد القضاء والقدر، وتشبيه الخيول والأفراس بالقدر تشبيهٌ موفّق وبديع، فللخيول صفات ومزايا تقصر عنها جميع حيوانات الطبيعة، فالإغارة والشجاعة والسرعة وحدة البصر والتصميم والإرادة، كلها صفات يقرّبها لأن تكون كالقدر. وكما شبه الخيول بالأقدار، شبه الدنيا بالناقة الواسعة الأشداق، التي تنتظر أن تبتلع كلّ من يقف في دربها. فالترميز عند المعري غاية، وأسلوب تورية وإعماء عمّا وراء القصد، فبعد أن يتحدث عن إلف الإنسان للهم والقهر، والتجمّل بالصبر لمن يقدر عليه، يقول بأن الكلاب النابحة على البدر، تظنه قرص جبنٍ أو أي طعامٍ يشبهه، وكذلك تُنبح الثريّا ظناً أنها عنقودٌ ملاحيٌّ، فمن قصد المعري بالكلاب النابحة، وما المقصود بالبدر والثريّا، إنّ البعد الفكري للمعري أبعد بكثير مِّما يقول، فهو يترك للفاخوري أن يضع مقبض الجرة حيث يشاء، ولعله قصد أن يتخاصم القراء في تقدير ما يريد، أيكون النابحون حسادَهُ، وهو البدر والثريا، ويظنون قطفه سهلاً، أم أراد أن يعجزهم عن بلوغه فوصفهم بالنابحين.. ربّما؟!:

 والهمُّ للحيّ، إلفٌ لا يُفارِقُه

حتّى يعودَ مع الأمواتِ مفقودا

تلكَ النّوابح خَاْلَتْ بَدْر لَيلتِها

قُرصاً، وظَنّتْ ثُريّا الليلِ عُنْقُودا

ويقول بلسان الجمع ويقصد الناس أجمعين: غدونا مسافرين (صحاةً مثلَ شرابٍ ثِمالِ)

ما الذي يعنيه بالصّحاة، وهذا التشبيه بالسكارى، أليس وراء المعنى لغز وتورية، فقد سروا في مجاهل الأقدار والحياة، مسافرين في بطاحها، على فرَسَيْنِ غير عاديين إنهما الليل والنهار والقدر بينهما وما تخبّئ الأيام، وعلى جَمَلَيْنِ ويقصد الحياة بما تحمل من فرح وحزن وسعادة وشقاء وخير وشر وكل أضدادها:

غَدَوْنا سائرين على وِفَاز

صُحاةً مثلَ شُرابٍ ثمالِ

على الفَرَسَيْن لا فَرَسَيْ .. رِهانٍ

أوِ الجَمَلَيْنَ لَيْسَا كالجِمالِ

وفي ترميزه للموت نراه على عكس التيار يسير، إذ إن أكثرية خلق الله يرون في الفجر الأمل والتفاؤل وانطلاقاً للحياة، لكنّ المعري يرى أن العيش ظلام ودُجية، بينما الموت فجر ساطع، إذ سينير روحه حمام الموت، إذ سيُطل عليه بعد انتظار:

مرحَبا بالموتِ والعيشُ دجًى

وحِمام المرء كالفجرِ سَطَعْ

 هذه بعضٌ مرموزاته التي لا عدّ لها ولا حصر، وإذا كان الأسلوب الرمزي الذي طبع به لزومياته، و انتشر بشكل لافت، فلا يعني ذلك أنّه ألغز وأحجى لكي يُعجز وحسب، بل كان أسلوبه وسيلةً ألحّ عليه تَقِيَّةً في عصر غلب فيه البطش والتكفير والتّلحيد، بخاصة بعد أن اتجه بفكره إلى مذهب الموحدين (الفاطميين) وإن لَم ينخرط فيه تماماً، لهذا قد لا يوافق كل النقاد على أن ترميزه كان هدفاً لا وسيلة، يقول د. علي شلق: (بقي أن نلقي ضوءاً على النمط الرمزي الذي نسب إلى المعرّي، في بعض أدواره، وإلى ما أوغل في الخوض به باحثون، أو مهووسون لا تطمئن البصيرة إلى منهجهم، فقد جعلوا للأرقام أسراراً، وللحروف مثلها، وهاموا في فضاء الطلسمات هياماً، أنساهم أنّ العقل النقي واقف يأسى لبعثرة طاقاتهم)(1).

 

أكتفي بما تقدم حديثاً عن لغة المعري، حتى إذا تابعت طريقي في الدخول إلى عالمه، وخانني الظنّ في تفسير أو شرح، فليعذرني القارئ أمام هذا العلم الأدبي العبقري، الذي وضع في اللغة ما لا سبيل لمعرفة كل شيء كما أراد، بخاصة وهو يغلّف أفكاره بما يُعيي الذين يحاولون النيل منه واصطياد ما يمكن أن يكون حجة عليه.

المراجع

1 أد. علي شلق . (أبو العلاء المعري والضبابية المشرقة) ص 73

العدد 1105 - 01/5/2024