كي لا ننسى…منذر شمعة.. مدافع شجاع عن الكرامة الإنسانية

 يعز على الإنسان أن يموت، وخصوصاً على أولئك الذين يؤمنون بأفكارهم، على أولئك الذين قلبهم مفعم بالأمل، والمستقبل المشرق.. بيد أنه لا يليق بالإنسان أن يريد البقاء حياً مهما كان الأمر، إذ إنه في طريق الحياة لا يحوز للمرء أن يتخلى عن أفكاره وآرائه قسراً، فالموت أشرف مئة مرة من العيش في العار والذل والهوان، إذ يتخلى عن أحلامه ومعتقداته.

هذه الكلمات التي قالها أحد المناضلين من أجل الحرية في أحد البلدان وهو في طريقه إلى الموت، بقيت عالقة في ذهن الشاب منذر شمعة، الذي كان عليه أن يعيش هذه الحالة لاحقاً، عندما فرضت عليه، إما أن يتخلى عما يؤمن به، أو أن يتعرض للسجن والتعذيب والاضطهاد، وقد اختار دون تردد الطريق الثاني.

إن منذر الشمعة ابن دمشق، الذي ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي، عرف منذ نعومة أظفاره شظف العيش، وكانت سورية آنذاك تعيش تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي الذي جثم بثقله على كاهل الشعب لفترات طويلة، والذي عانى من ظلمه وجوره واضطهاده الكثير والكثير. لم يستطيع اليافع منذر شمعة إلا أن يتأثر بعمق بما يجري حوله.. كانت سورية تعج بالمظاهرات الشعبية والطلابية على الخصوص التي تطالب بالاستقلال.. كانت الروح الوطنية ملتهبة آنذاك عند تلك الشريحة الحيوية من الشعب، ونتيجة صلابة السوريين في نضالهم من أجل استقلالهم الوطني ودعم أصدقائهم.

اضطرت الجيوش الفرنسية للجلاء عن البلاد، التي برزت أمامها مهام جسام تتعلق بتعزيز الاستقلال الوطني ورفض الأحلاف السياسية الاستعمارية، ورفض الديكتاتوريات العسكرية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وما تتطلبها من تدابير. انخرط منذر شمعة في النشاط الوطني وهو طالب في جامعة دمشق كلية العلوم أوائل الخمسينيات، ووجد نفسه إلى جانب الحزب الشيوعي السوري المشارك بقوة في الحراك السياسي والوطني آنذاك، وأصبح عضواً في الحزب.

كان مقتنعاً أن هذا الحزب هو المدافع  الأمين عن مصالح الشعب والوطن، وأنه سيجد فيه حلمه بالعدالة الاجتماعية. ومنذ ذلك الوقت وهب حياته لهذه القضية. اعتقل في عام 1959 شأنه في ذلك شأن الكثير من الوطنيين والديمقراطيين دون مبرر، ولقد خُيّر بين أمرين، إما أن يعلن براءته من الحزب، وإما أن يظل في السجن، وكان قراره هو البقاء، لأنه وجد أن كرامته كإنسان وكوطني مرتبطة ارتباطاً عضوياً بحريته في اختيار أفكاره وآرائه. وفيما بعد يتعرض المناضل منذر شمعة لتجربة مماثلة، إلا أنه بقي مخلصاً لنفسه، وبقي مدافعاً عن حريته في اختيار ما يعتقد به.

خرج منذر شمعة من السجن عندما عادت سورية دولة، ومنذ خروجه تابع نضاله مع الحزب عضواً قيادياً في منظمة دمشق، وشكّل مع المناضلة سعدية اليوسف، وهي شقيقة الشيوعي المقدام مراد اليوسف، عائلة صغيرة قدمت الكثير من الخدمات للحزب في مختلف الظروف. حدثت فيما بعد تطورات عاصفة في المنطقة، وبرزت إلى المقام الأول قضايا لم تكن مثارة سابقاً، واختلف الرفاق في تحليلها واتخاذ المواقف المناسبة منها. إن هذه القضايا لم تكن مجال اختلاف في الحزب الشيوعي فقط، وإنما شكلت مجال خلاف داخل جميع تيارات الحركة الوطنية في البلاد، وعلى نطاق المنطقة.. لم يكن الشيوعي منذر شمعة بمعزل عن ذلك.

لقد لعبت هذه الخلافات التي حدثت في الحزب والقوى الوطنية الأخرى دوراً في إضعاف دورها السياسي والاجتماعي في البلاد، وكان ما يؤلم مدرس الرياضيات الشاب منذر شمعة، هي الطريقة التي كانت تُحل بها هذه الخلافات، والتي عوضاً عن تكون مصدر غنى كبير للحزب ولسائر القوى الوطنية، أدت لتبعثرها وتبعثر قوى الحزب، الأمر الذي أثر سلباً على نضاله وتراجع دوره في حياة البلاد السياسية.

كانت تحزنه الطرق التي استخدمت في هذا الصراع، ووجد نفسه تدريجياً خارج إطاره.. بيد أن الهم الوطني والاجتماعي لهذا المناضل بقي محافظاً عليه حتى آخر لحظة من حياته.

في عام 2006 غادر منذر شمعة الحياة، تاركاً لنا إرثاً نضالياً داخل في تراث الحزب الوطني والاجتماعي الحافل، ولن تمحوه السنون.

العدد 1107 - 22/5/2024