هل يمكن إيقاف العنف في سورية عبر المصالحات الوطنية؟

 من منظور عامل الزمن في تكريس قناعة عبثية الحرب، ومن منظور حتمية القوانين التاريخية وجدلية الأزمات الوطنية الكبرى، فإن المصالحات والحوار السياسي هما حقيقتان تشيران بوضوح إلى أنه: نعم، يمكن إيقاف العنف.

باستثناء بعض التيارات والأحزاب العلمانية، منذ البداية كان النظام أكثر تجرؤاً، في قبول الحوار، من المعارضة السورية بأطيافها المتنوعة. وبالتغاضي عن الأسباب التي دفعتهما إلى ذلك، أدى الواقع الميداني العنفي، إلى الرضوخ للضغوط الخارجية، من منظور براغماتي، أو من منظور تكتيكي آني لتأمين الشرعية على طاولة المفاوضات، أو الحصول على مقعد في مفاوضات معينة.

وبالتغاضي كذلك عن شكلانية الكذب والصدق، سعى النظام بالإمكانات اللوجستية والإدارية له إلى إطلاق عدد من اللقاءات الحوارية متجاوزاً سلوك العناد الذي كان ينتهجه في بداية الأزمة، خاصة في المراكز العليا من صنع القرار، بإعلان صريح للرئيس السوري وَرَدَ في خطاب له في كانون الثاني ،2013 عن عدم جدوى الحل العسكري، وضرورة الحوار دون شروط مسبقة، والوصول إلى منظومة توافقية قانونية وسياسية، والأهم من ذلك، القبول بشكل مُبطن بالحوار مع أطراف المعارضة المسلحة.

وإذا عبر هذا الخطاب عن مرحلة جديدة بالقبول بالحل السياسي من قبل الدولة، إلا أن معظم أطراف المعارضة المسلحة، تعتبر أن النظام لا يزال غير جدي في ذلك، وأنه ما يزال يناور ويؤخر إطلاق العملية السياسية، وأنه غير مستعد لأي جهود داخلية مشتركة، إلا فيما يتوافق مع ضغوط تمارسها عليه أطراف دولية خارجية خاصة موسكو.

وهذا ينسحب أيضاً على الأطراف السورية المعارضة المقيمة في الخارج، إذ أعلن مؤتمر (الرياض)، على مضض، مشاركته في مشاورات جنيف 3 برعاية المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وهي بذلك تحايث أيضاً موقف مجموعات المعارضة المسلحة التي ترفض الحوار مع النظام، وتمنع بالقوة أحياناً إجراء المصالحات المحلية. لكن هذا غير مفاجئ، إذ إن الهدنة التي مازالت صامدة بين الجيش السوري من جهة ومجموعات من المعارضة المسلحة من جهة أخرى، في مدن وبلدات متعددة من الشمال السوري، حتى درعا في الجنوب، لا تروق للميليشيات العسكرية التي مازالت تقاتل، خاصة (جبهة النصرة) و(أحرار الشام) و(تنظيم الدولة الإسلامية). فهذه لاتزال القيادات فيها مقتنعة أن هناك إمكانية للحسم العسكري ،وسيلةً وحيدة متاحة، دون أي جهد مناسب في العملية السياسية. ولا تزال تعمل بقناعة مفادها أن الدعم الخارجي من تركيا والمملكة العربية السعودية، يمكن أن ينهي الصراع عسكرياً لصالحهم على حساب الجيش السوري.

إن سرديات المصالحة الوطنية في تحقيق السلم الأهلي ومواجهة مظاهر الفاشية الإسلامية، يفرض بحد ذاته حضور خصائص محلية وجملة من التحديات الوطنية الأساسية، مختلفة عما كان سائداً قبل الأزمة. وتظهر هذه التحديات فروقات في الأهمية، تضعف وتقوى بحسب التطورات الإقليمية والميدانية الداخلية، ويفرض على النخب الوطنية آليات عملياتية ومرنة في التعامل مع شروط الأزمة ومسألة التدخل الإقليمي، وبالأخص تأسيس صيغة وطنية أكثر فعالية وواقعية تضبط أو تمنع مستقبلاً تكرار حدوث أي أزمات بهذه القسوة، تشمل بالدرجة الأولى تحقيق السلم الأهلي ومحاربة تمدد الفكر التكفيري، وأيضاً بالضرورة التأسيس لتغيير ديموقراطي وعملية سياسية تعددية، منفصلة كلياً عن التأثيرات الدينية ومحاولات احتكار السلطة القائمة حالياً.

إن الحقيقة التي لابد لنا من التأسيس عليها هي أن المصالحات الوطنية هي الطريق الأمثل لضبط الآثار العنفية الناتجة عن الصراع الداخلي، كذلك هي في الموضوع الإغاثي، الأمان، والنزوح. لكنها لن تكون الصيغة الشاملة للحل النهائي في سورية. ومهما كان هذا الحل المنتظر، فإنه يجب أن يستند على قناعة لدى جميع الأطراف بأن من مصلحة الوطن التامة أن لا تراهن القوى التي كانت فاعلة قبل الأزمة على بقائها كما كانت، أي بمعنى محاولة إنتاج نفسها. وأيضاً ألا تراهن بعض القوى الفاعلة التي أعطتهم الأزمة السورية فرصة لامتلاك الإرادة السياسية والعسكرية، على أن يقفزوا للأمام ويعلنوا صيغ حكم غير عقلانية. وفي خلاصة القول، إن عملية المصالحة الوطنية هي عملية طويلة زمنياً، ويمكن الاعتماد عليها واعتمادها رديفاً لمؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية سياسياً. وهذه العملية بالتأكيد هي الأقل كلفة والأكثر أماناً وتحمل في طياتها مضموناً حضارياً وإنسانياً، وهي بطريقة أو بأخرى ستضعف إلى حد كبير الارتهان للقرار الخارجي.

العدد 1107 - 22/5/2024