احتفاء صادق جلال العظم بالعولمة المتوحشة

كان صادق جلال العظم، ابن العائلة الارستقراطية الدمشقية، يرى في الماركسية فلسفة العصر التي ستمكننا وحدها من إنقاذ أنفسنا وعالمنا، ويشدد على أنه ماركسي لينيني، ومع توقيعه على بيان الـ99 عام 2000 ونشاطه في لجان إحياء المجتمع المدني، بدأت تلوح إشارات تأثره برياح العولمة القادمة من الغرب الأمريكي، وأمكننا ملاحظتها في كتاب (ما العولمة) الصادر في ذلك العام عن دار الفكر بدمشق، اعتبر فيه العولمة روح العصر ومسار التاريخ، ثم عاد لطمس جنوحه في تناقضات واضحة تضمنها الحوار الذي أجرته معه الرفيقة زينب نبوة ونشر بتاريخ 21 / 8 / 2009 في صحيفة (النور)، ففي الوقت الذي أكد فيه أن ماركس أصبح جزءاً من مسلمات الفكر الاقتصادي العالمي، أكد أيضاً أن نظرية نهاية الفلسفة تعني نهاية فلسفات معينة وبدء فلسفات تتناسب والعصر الذي نحن فيه، ويعني بذلك نهاية فلسفة الماركسية اللينينية وبداية فلسفات فوكاياما وهنتنغتون، لكنه أبقى المعنى ضبابياً في جواب آخر تحدث فيه عن تراجع فوكوياما عن نظرته إلى نهاية التاريخ والى الرأسمالية كنظام غير قابل للتجاوز.

الانقلاب الصريح والعلني لصادق جلال العظم من ماركسي لينيني إلى ليبرالي جديد مروج لفكر العولمة المتوحشة رافق الحملة الدعائية مع بداية العدوان على سورية، إلى يوم وفاته في برلين عام 2016 واختلفت الآراء حول انقلابه بين من لم يعلموا به فحافظوا على صورته القديمة، ومن يشعرون بالدونية تجاه (قداسة) موقعه كمفكر، فلا يملكون الجرأة على نقده، ومن تعولموا أمريكياً على شاكلته فوافقوا (قطيعياً) على أطروحاته الجديدة، والسلفيين الرافضين له كملحد كافر لا يغير انقلابه شيئاً بالنسبة لهم، ومن لم يفقدوا القدرة على المساءلة النقدية في زمن الحدود المائعة، المدافعين عن حقوق الشعوب وقيم العدالة الاجتماعية، فأظهروا الحقيقة المؤسفة كما هي.

 برر العظم احتفاءَه بالعولمة المتوحشة بسذاجة في تساؤلاته عما جرى في العالم مؤخراً حتى تثير مؤلفات فوكوياما وهنتنغتون وسلمان رشدي وإدوارد سعيد ردود أفعال سجالية دولية لا سابقة لها في التاريخ الحديث من حيث شموليتها وعالميتها؟ ورأى الجواب في ظاهرة العولمة التي بدأت تجتاح الكرة الأرضية كلها، والمقصود من ذلك التبرير هو إشاعة جو تضليلي بأن الظاهرة نشأت نتيجة تطور عفوي في مسار الفكر البشري، وما وراء القصد هو تبرير دفاعه هوعن العولمة المتوحشة، ورفضه التشكيك بها مهاجماً (أي كلام عن ذوبان الحدود السياسية بين الدول وحلول الشركات متعددة الجنسيات محل الحكومات هوكلام منخدع يسطح ظاهرة العولمة). ووصل به الأمر إلى نفي الصراع التاريخي بين الشمال الاستعماري الغني والجنوب الفقير المنهوب، وإلى محاولة تصميم نهاية فوكويامية للفكر المعادي للاستعمار من خلال التعرض لكراس لينين الهام (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) ودعوته إلى وجوب إعادة النظر في نظرية التبعية، لنتمكن من التعامل مع النقلة الجديدة في حياة الرأسمالية، حسب زعمه.

لقد حاول العظم طلي تعريفه للعولمة بلون الاقتصاد السياسي الماركسي فقال: (إنها حقبة التحول الرأسمالي في ظل سيادة النظام العالمي الجديد وهيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها لانتقال الاستثمار إلى دول الأطراف بشروط تفضيلية للأقوى) لكن التذييل العاجز والخالي من مفهوم الصراع الطبقي في التعريف أزال ذلك اللون وكشف عن الروح الانهزامية، بالمقارنة مع تعاريف تحمل محتوى الصراع التناحري والدفاع عن الاستقلال ضد التبعية، كتعريف سمير أمين: (العولمة هي الموجة الثالثة من التوسع الاستعماري)، أو تعريف غينادي زوغانوف: (العولمة المعاصرة هي أعلى مراحل الإمبريالية التي ما زالت كالسابق تحمل للشعوب الخوف والحرمان والحرب والموت، وتدشن مرحلة جديدة في مضمار إعادة تقسيم العالم، وتؤذن بتفاقم جميع المشكلات والتناقضات).

 إن سر الاختلاف بين هذه التعاريف يكمن في التبعية، فحين تحدث العظم عن انتقال الاستثمار إلى دول الأطراف التي قال عنها في مكان آخر إنها تعاني من انسداد الأفق، كان يريد القول إن العولمة هي عامل تطوير لتلك الدول العاجزة عن تطوير ذاتها، فلا بد لها من الانصهار ومحو تفكيرها (القديم) بالصراع والتبعية ووو.

وفي محاضرات برلين وتصريحات العظم التي رافقتها للصحافة استخدم مصطلحات شارعية مبتذلة ليست واردة في أدبيات الخطاب الماركسي، فضلاً عن دعوته إلى منح الفرصة لما دعاه بإسلام المال والأعمال ونحن نعرف أخوات تلك الدعوات، عند فوكوياما الذي اعتبر اقتصاد السوق الحر سيحل الصراع بين السادة والعبيد عبر الديمقراطية، وسيحقق مستويات عليا من الرخاء المادي، ونجدها في مرجعياتها الأولى عند كاوتسكي الذي سبق أن طمأن الشعوب وبشّرها بنهاية الحروب، وعزّاها بآمال باطلة مصوراً اكتساب الرأسمال المالي الصبغة العالمية كباعث للأمل باستتباب السلام بين الشعوب، فماذا كانت النتيجة؟

 كانت حروباً غير مسبوقة لم تتوقف منذ تاريخ إطلاق البشارة حتى بلغ عدد قتلى حروب القرن العشرين ما بين 167 و175 مليوناً، دون إحصاء عدد الجرحى والمشوهين والمفقودين، وهي النتيجة الكارثية المؤلمة التي توقعها لينين وأثارت غضبه من طمس كاوتسكي لأعمق تناقضات الإمبريالية المؤدية إلى الحرب التي وصفها في كراسه بالحرب الإمبريالية والغزو وحرب النهب واللصوصية التي تهدف إلى تقسيم العالم واقتسام المستعمرات ومناطق النفوذ وإعادة اقتسامها، وهي النقطة الأخلاقية الإنسانية الأهم بين جملة النقاط الهامة بمجملها في الكراس.

بوجه عام نحن لسنا ضد إعادة النظر في قضايا نظرية لم تعد ملائمة لعصرنا، ولكن ما يطلبه منا العظم أن نتخلى عن ثوابت غير قابلة للمس كالاستقلال والكرامة الوطنية والقرار السيادي، في محاولته نفي مفهوم التبعية من الذاكرة النضالية للشعوب اعتماداً على جدلية زائفة أتت في سياق فلسفة نهاية التاريخ تقول : في مقابل عدم تحقق حتمية الثورة في الغرب الرأسمالي أعادت الإمبريالية إنتاج ذاتها كإمبريالية عليا، وعلينا وفقاً لذلك، الترحيب بها كمصير أخير وأكيد للمجتمع الإنساني، ومع الأسف فقد تمكن العظم من استمالة بعض ناقصي المعرفة تحت إغواء المعاصرة رغم تفاهة الطرح والتجاعيد الفكرية التي تمثلها محاولته استنساخ النهايات الفوكويامية ذاتها التي قال هو بتراجع مبدعها عنها ولم تقنع حتى هنتنغتون الذي أقر بأنها استفزازية، واعتبرها الكاتب والمؤلف الأمريكي جون كراي بأنها تنبئ بنهاية الليبرالية وليس نهاية التاريخ، ولم يمتدحها ولم يُشِد (بعبقريتها) سوى أقطاب اليمين.

إن كراس لينين الذي رغب العظم في إحالته إلى القاضي الشرعي كان وما زال أحد أهم دعائم الماركسية اللينينية، ويشكل كابوساً مرعباً للطغم المالية، بفصوله العشرة وتحليله البارع وفق الجدل الماركسي لقضايا الاحتكارات وتمركز الإنتاج واتحادات الرأسماليين واقتسام العالم بين الدول الكبرى، ودور البنوك في تحويل الرأسمال غير العامل إلى رأسمال عامل يدر الأرباح على تلك الاتحادات – العملية التي اعتبرها لينين وجهاً أساسياً من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى إمبريالية، وانتهاء بمكانة الإمبريالية في التاريخ، وما تخلل الكراس من نقد لأفكار شخصيات الحزب الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي ورودولف هيلفردينغ الذين كانا يعتبران نفسيهما ماركسيين، ولكنهما حقيقة من أوائل الذين أمنوا الأساس النظري لاستقرار الرأسمالية، الأمر الذي دعاه لينين رذالة الانتهازية. ولا مبالغة في اعتبار الانتهازية المفرطة لمثقفي الموضة الحاليين من نوع صادق جلال العظم وأمثاله بمحاولة إحياء تلك الرذالة ورفعها إلى رذالة عليا في زمن تحول الرأسمال المالي إلى اقتصاد عالمي مسيطر بلا حدود، قوامه الشركات متعددة الجنسيات بقبضة أمريكية تمثل أفظع نظام للوحشية والقتل والنهب والاضطهاد عرفه التاريخ المعاصر، إذ بدلاً من تجديد نظرية التبعية لمواجهة هذا التحول، يحاول مثقفو الموضة تأمين المزيد من الاستقرار للنظام العالمي الجديد الذي لم يكتفِ بتعظيم الفوارق الطبقية داخل المجتمعات، بل عمّمها على مستوى المجتمع الإنساني برمته.

إن أسوأ مظاهر الرذالة العليا تمثلت في ضرب متلازمة النضالين الطبقي والوطني، لخلق جماهير من المشجعين المنفعلين لما دعاه ادوارد سعيد بصدام الجهالات، وهي جناية ثقافية تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة. لذلك نحن لا نهتم بانقلاب صادق جلال العظم من زاوية حقه الشخصي في تغيير مواقفه وتراجعه عن ماضيه أو نقده لذاته، ولا لتقديمه ماركسيته اللينينية قرباناً على مذبح إمبراطورية فوكوياما وطغمه المالية، باعتبار ذلك إهانة جذرية له ولتاريخه، ولكننا نكترث جداً للأعباء الدموية المترتبة على إشاعة ثقافة تأكل أرواح البشر وممتلكاتهم، ويحزننا أشد الحزن انقلاب العظم من صف المدافعين عن حقوق البشر، إلى صف ملتهمي تلك الحقوق تحت مظلة فلسفة فاسدة ومشوشة بررت الحروب الحديثة المشتعلة بكبريت أمركة العالم.

إن وضع العظم المساحيق على وجوه القتلة واللصوص، في زمن يراكم المزيد من أسباب الانفجار الثوري، يؤكد لنا أن ما كتبه لينين، الذي استعنت ببعض مصطلحاته هنا عن كاوتسكي وهيلفردينغ، ينطبق على مثقفي الموضة الحاليين، بأنهم نتاج محتوم لتفكير صغار البرجوازيين الذين يبقيهم وضع حياتهم بأكمله في أسر الأوهام البرجوازية (ص299 المختارات م1ج2).

لقد كتب تيري إيغلتون في كتابه (أوهام ما بعد الحداثة- ص10): (من الخداع الفكري أن نزعم أن منظورات التغيير الاشتراكي وآفاقه في اللحظة الراهنة ليست بعيدة كل البعد، غير أن الأسوأ من هذا الخداع بكثير هو أن نتخلى في مثل هذه الظروف عن الحلم بمجتمع عادل، وبذا نذعن للفوضى المرعبة التي هي العالم المعاصر.

العدد 1105 - 01/5/2024