أيار فلسطين.. الأسود

تمثل هذه الحرب (1948) إحدى أكبر مآسي التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي الحديث، إذ إنها الحرب التي أدت إلى سقوط 77% من أرض فلسطين في قبضة الاحتلال الصهيوني وخلق كيانه عليها وتشريد نحو ثلثي شعب فلسطين.

كانت هذه الحرب نتيجة مباشرة لقرار الاستعمار البريطاني بالانسحاب من فلسطين وإيكال الأمر إلى الأمم المتحدة التي أصدرت تحت ضغط القوتين العظميين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي قراراً رقم 181 بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية 45% ويهودية 54%، ومنطقة عازلة دولية 1%… ولا يمكن فهم تطورات الحرب ونتائجها إلا بتصور أوضاع القوى المتصارعة فيها.

فقد خرج شعب فلسطين منهكاً من ثورته الكبرى ضد بريطانيا ثورة 1936-،1939 وعانى من الحكم العسكري الصارم طيلة الحرب العالمية الثانية، وكان يفتقر لقيادة سياسية وعسكرية متماسكة في الميدان تملك القدرة الفاعلة على الحشد والتعبئة والتنظيم.

وقد ساهم إخراج القرار السياسي والعسكري من إلزام الشعب الفلسطيني القيام بدوره، فقد ارتأت الدول العربية أن تتولى أمر تحرير فلسطين، وهي كانت آنذاك دولاً تحت أشكال من النفوذ الاستعماري، وهي دول لم يشتد عودها بعد وتفتقد  ضعف التنسيق الميداني، وتفتقر كذلك إلى وجود قيادة عسكرية مشتركة وموحدة ذات صلاحيات حقيقية، ودخلت الحرب وهي لا تملك معلومات عسكرية عن قدرة القوات الصهيونية وإمكاناتها، وتعامل البعض مع هذه القضية وكأنها نزهة عسكرية.

لقد تمكن المشروع الصهيوني من بناء مؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والتعليمية والاجتماعية وتنميتها، وكان وجودها بشكل فاعل وميداني ويتمتع بقدرات قيادية وتنظيمية وتعبوية عالية.

وعلى الرغم من الجرح الغائر في الجسد الفلسطيني، وهو من أكثر شعوب الأرض تعرضاً للاضطهاد والعذاب، لكن يتوالد كأشجار الدم في غابات الاحتلال الكاسرة، جاء قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليزيد في تعميق الجرح الفلسطيني، الذي انتفض ضد هذا الموقف الشائن ولا يزال الشباب الفلسطيني يرفع اليوم راية التحدي، وهو يدخل شهره السابع في مواجهة الاحتلال الصهيوني مع شعوره بضرورة صون جرحنا من العفونات والمتاجرات والتخثر.

إن الهبة التي أشعلها شعبنا الفلسطيني في الداخل قد تجاوزت حدود الإجهاض والاحتواء، والمسألة بحاجة إلى فعل مباشر تحكمه إرادة سياسية فاعلة يفرضها الإحساس بالمسؤولية الوطنية، ودون ذلك تنقلب الاستخلاصات إلى عكسها تماماً ونعود إلى معزوفة المفاوضات العبثية ذات السمعة السيئة، في آلياتها، وفيما رافقها من استفحال السياسات العدوانية من توسع.

ونرى من الضرورة الملحة تصويب الأوضاع الفلسطينية التي تحتاج إلى تأمين الحماية السياسية للانتفاضة، وإلى تشكيل قيادة موحدة لها وبلورة برنامجها حتى نستطيع تحقيق برنامج كفاحي وفتح الآفاق والآليات لتطويرها نحو انتفاضة شعبية شاملة يكون الاستقلال هدفاً رئيسياً لها حيث لا أمن للاستيطان والاحتلال في فلسطين دون استعادة الحقوق الشرعية وغير القابلة للتصرف مع الاحتفاظ بشخصية البطل الفلسطيني المقيم كالجرح في جسد أرضه، البطل الباحث عن الجذور ونهار الأرض وشمس الجرح المكبوتة تحت غيوم العصر الإمبريالية الصهيوني الوحشي، فماذا يعشق المسروق وهو في مواجهة يومية مع لصوصه؟ وماذا يعشق المقتول الحي وهو يومياً بين الموت ولا حياة في صراعه مع أعدائه؟

المحزن في المشهد السياسي الفلسطيني أن السلطة في رام الله مازالت متمسكة بالارتباط الأمني مع العدو، والإصرار الغبي على الاتفاقيات المذلة بحق الشعب الفلسطيني الرافض والمقاومة لهذا النهج السياسي الصدئ، ولن يستجيب لسياسة الإغواء.

سيبقى هذا البطل النموذج المتمرد على الزخم السياسي المهادن ليهدم وجه أسطورة الغزاة وما ولّده من تواريخ ذليلة.

العدد 1105 - 01/5/2024