نوبة الوحشية النيولبرالية والأزمة السورية في السياق (1)

 بعد 45 عاماً من تحذير هيربيرت ماركوز من تحول القاعدة الشعبية الكامنة للتغيير إلى قاعدة للفاشية، ومن إمكانية أن تفضي الحضارة الحالية إلى البربرية، يحدث ذلك بالفعل، تحققه تكتيكات حراس سلطة الرأس مال المستمرة والمتطورة منذ الثورة العمالية في باريس ،1848 إلى انهيار المنظومة الاشتراكية الذي فتح أبواب العالم لهؤلاء الحراس على مصاريعها ابتداء من عام 1990 حين بدؤوا تطبيق شريعة الغابة، بالوقاحة التي يبدو معها أي نفي للدور العالمي المركزي القوي الفاعل والعريق في أزمات الأطراف وخاصة الدول النامية هو قفز واضح فوق الحقائق، وخاصة أن الوحشية والبربرية تكثفت وتجلت بأبشع ما يمكن من صور السادية في المشهد السوري منذ آذار 2011- فكيف تقهقر هذا العالم؟ كيف وصلنا إلى هذا المشهد؟

سأحاول الإجابة على ذلك بعد خمسة أعوام دامية مرت على البلاد، بدأت بغمامة من النقاشات الحادة، المتطرفة أججت لهيبها وسائل الدعاية المضللة ومثقفو الطابور الخامس حول رؤيتين أحاديتين، واحدة تنفي الأسباب الخارجية للأزمة بالمطلق وتحيل هذه الأسباب ومعها كل شرور العالم إلى السلطة السياسية والأمنية في سورية، والثانية في المقابل تغطي على التناقض بين السلطة والناس والفجوة الحاصلة بينهما بإحالتها أسباب الأزمة للمؤامرة الخارجية على البلد، علماً بأن أياً من هاتين الرؤيتين لا يصلح بمفرده لتكوين تصور علمي شامل للحدث، فالرؤية الواقعية الجدلية تقول بأن الأزمة السورية أزمة مركبة تضافرت على تفجيرها عوامل داخلية وخارجية، ولا يمكن تجاهل أي من هذه العوامل لتداخلها، وسأحاول هنا التركيز على العامل الاقتصادي الخارجي وأثره في تفجير الأزمة الداخلية في سورية.

النظام العالمي الجديد القائم على فرض عولمة الاقتصاد والثقافة الأمريكيين هو نظام أحادي القطب برز جلياً فوق أنقاض وركام مدن وقرى وجثث 160 مليوناً ممن طحنتهم حروب القرن العشرين وأزماته المالية المتلاحقة وانهياراته وخيباته، نظام كان أنبياؤه قد بشروا الثمانين بالمئة من الجائعين ومحبطي البشرية بأن الحرية المطلقة للعشرين بالمئة – المصطفين – ستمنح الجميع الرفاهية التي يحلمون بها. ولم يمض الكثير من الوقت حتى كشف مصطلح

  أطلقه بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق الخديعة المبيتة وراء تلك البشارة، فالمصطلح مؤلف من كلمتين تعنيان أنه بقليل من التسلية المخدرة والتغذية يمكن تهدئة خواطر هؤلاء المحبطين، ولكن حجم الكارثة الانسانية في حقيقتها كانت أفظع بكثير من مجرد حلول مستهزئة ومتعالية يرسمها خيال رعاة البقر، والحقيقة أن البشرية قد وضعت قسراً على الطريق المؤدي إلى الهلاك ولم يتسنّ لها اختيار طريق خلاصها، إذ كان كل (جديد) فكري رأسمالي يحمل في طياته خطوة أو خطوات متسارعة إلى الوراء للمجتمع الإنساني في مسار عكسي مع التقدم التكنولوجي، وكان النفاق قد رافق كل تلون فكري حربائي اعتمدته الرأسمالية في صراعها مع الموت المحتم المؤجل، فعلى الرغم من تنوع التيارات الفكرية المتنافسة التي تحرك السياسة الخارجية الأمريكية بين صقور وحمائم أو بين قوة عسكرية مباشرة وقوة ناعمة، أو محافظين أو لبراليين جدد إلا أنها ليست أكثر من تنويعات أسلوبية لجوهر واحد ثابت هدفه الحفاظ على ديمومة الإمبراطورية وهيمنتها بغض النظر عن أي ثمن، ولهذه الغاية نفسها استندت الإمبراطورية في كل مرحلة تاريخية معينة إلى شكل مختلف من المرجعية الفلسفية التي تمكنها من تجاوز الاختناقات المالية المهددة لوجودها بأمان،

فعندما فشلت على سبيل المثال كلاسيكية آدم سميث في إنقاذ الإمبراطورية من أزمتها المالية اعتمد الحراس منذ 1937 فصاعداً على ما سموه الكلاسيكية الجديدة ممثلة بآراء الأقتصادي البريطاني (جون مينارد كينز)الذي سرق بعض قوانين حركة الجماهير، المجموعات، الطبقات من الإقتصاد السياسي الماركسي، ولكن في حدود طبقية تعبر عن مصالح النظام الرأسمالي وتتحول فيها هذه الآراء إلى أداة بيد النظام، فمحاولته خلق توازن اجتماعي تحصيني عبر دور مختلط لكلا القطاعين العام والخاص ومنح الدولة تفويضاً بالتدخل في بعض المجالات لم يكن غير محاولة مؤقتة لانقاذ الرأسمالية لدرجة دعت بعض الاقتصاديين إلى المبالغة في تسمية الكينزية بأنها (مذهب إنقاذ النظام الرأسمالي).

ولكن وعلى الرغم من (تلطيف التناقضات) حسب تعبير الدكتور مفيد قطيش في المرحلة الكينزية إلا أن خروج الرأسمالية من أزمتها لم يتحقق إلا بفعل الحرب العالمية الثانية لتعود ثانية وتنهي النهوض أزمات متلاحقة 1948-1949و1957-1958و1970-1971 ثم الأزمة الأقوى في تلك المرحلة 1974-1975سقطت على أثرها الكينزية ليظهر على المسرح مهرج آخر هو (فريديرك هاييك) الاقتصادي النمساوي شاهراً جديدة النيولبرالية بدايةً لدورة جديدة تعتمد الحرية المطلقة للسوق ورفع يد الدولة عن أي تدخل في الاقتصاد.

وإذا كان جديد الكينزية قد أعادنا إلى عتبات فكر العصر الصناعي، فان جديد فريديريك هاييك سيعيدنا كما سنرى إلى عمق شريعة الغابة، فمنذ عام 1960 بدأت عملية واسعة النطاق لتحضير المسرح الاجتماعي لهذه المغامرة عن طريق هجوم ثقافي على نتائج عصر الأنوار، وإصابة الحامل الاجتماعي لقوى التغيير الحقيقي بالعجز والشلل، وذلك عن طريق استنهاض القوى المغرقة في أصوليتها ورجعيتها وتأمين الظروف الملائمة لحركتها وأثرها داخل المجتمعات (الهيبيون وأنصار العصر الجديد وكل مكونات اليمين المتطرف والنازيين الجدد والمسيحية المتصهينة والأرثوذكسية اليهودية والإسلام السياسي)، أما الزخم الأقوى فقد تحقق بوصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم على التوالي سنتي 1979 و1980 في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ما منح اللبراليين الجدد حرية الحركة والمبادرة والقرار، وفي عام 1983 أنشئت منظمات تابعة للعولمة مهمتها تثبيت الأيديولوجيا الجديدة وإعداد الشباب والحركات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني وتدريبهم على أداء دور في هذه المهمة، فأصبحت مؤسسات العولمة هي على الشكل التالي:

المصرف الدولي، صندوق النقد الدولي ومئات المنظمات التابعة لهما ومراكز أبحاث ودراسات، والأهم كان في العامين 1994 و1995 تأسيس منظمة التجارة العالمية وهي بمثابة إعلان النظام العالمي الجديد تحت المظلة الأمريكية ويضم غالبية دول العالم ومعها منظمة الأمم المتحدة وها هي ذي الإمبراطورية- النظام الاقتصادي الثقافي اللبرالي المتوحش وهو أعلى مراحل الرأسمالية – قد اكتملت، وتسيد العالم طغمة من أصحاب المليارات والسياسيين والمؤسسات المالية الكبرى والشركات العابرة للقارات ومضاربي وسماسرة الأسواق والمصارف وعلى رأسها البنك الدولي المملوك حصرياً لعائلة روتشيلد التي تملك أيضاً إمبراطورية الإعلامية وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن جورج بوش الرئيس الأمريكي السابق مجرم حرب الخليج الثانية وجورج سورس الملياردير الأمريكي،هما من أكثر المقربين لعائلة روتشيلد،ومن الطغمة اللبرالية الجديدة أيضاً جورج بوش الابن وجورج شولتز وكوندوليسا رايس وجون ماكين وغارد كوهين وأساتذة الاقتصاد الكبار في جامعات ستانفورد وهارفارد واكسفورد وغيرهم. ومن أهم منظريهم كل من آرفينج كريستول ونورمان بودوريتز.

العدد 1107 - 22/5/2024