كي لا ننسى “إلياس ورد”.. مناضل دفعته إنسانيته كي يصبح عضواً في الحزب الشيوعي

 حلب العشرينيات، كانت تنفض عن نفسها غبار قرون عديدة من الاحتلال العثماني المليء بالظلم والتجهيل والتخلف، وكانت ذكرى اضطهادات رجالاتها المتنورين لا تزال عالقة في أذهان الكثيرين من أجيالها التي عاصرت تلك الفترة الزمنية الصاخبة من تاريخ سورية. إلا أنها، وهي التي كانت لم تزل باقية في ذاكرتها آثار الماضي المظلم للحكم العثماني، كانت تستقبل مرحلة جديدة شديدة الصعوبة أيضاً تقف حائلاً على طريق حرية الشعب السوري وكرامته واستقلاله، ألا هو الاحتلال الفرنسي. إلا أنه وفي الوقت نفسه، كان ينبثق نور ضعيف لا يخبو، نور واعد يبشر بأن الحركة النهضوية في سورية وحركة التنوير لن تنطفئ رغم كل العوائق ورغم كل التعرجات.

في أعماق حلب، كانت في ذلك الوقت تتخمر أفكار جديدة، ورغم أنها جنينية، كانت تحاول أن تتلمس المستقبل، إذ تشكلت أولى الحلقات الماركسية من مجموعة شابة من الأرمن كانت قد هاجرت إلى هناك هرباً من الاضطهاد التركي أطلقت على نفسها اسم جمعية سبارتاكوس، كان لابد لها أن تلتقي تدريجياً مع تجمعات أخرى بأوساط السوريين، كانت قد وصلت تحت تأثيرات مختلفة إلى الاستنتاجات نفسها، وكان لابد من التلاقي، وهكذا بدأت بالظهور الحلقات الأولى للحزب الشيوعي السوري اللبناني آنذاك.

في هذا الجو وفي العشرينيات ولد إلياس ورد، من عائلة متعلمة ومتنورة آنذاك، ودرس في مدارس حلب، حيث كانت الحركة الطلابية في الثلاثينيات من القرن الماضي على درجة عالية من الحيوية والنشاط المناهض للاستعمار الفرنسي، وكان لابد للشاب إلياس أن يتأثر بهذه الأجواء، ولقد وجد نفسه ينخرط في هذا النضال الطلابي. ورغم أن الحزب الشيوعي كان آنذاك لايزال جنينياً، إلا أن نشاطه كان قد بدأ بالظهور، وتأثر الشاب إلياس ورد بهذه الأفكار التي كانت جريئة في ذلك الوقت، عن طريق بعض أصدقائه، وتعززت تدريجياً علاقاته مع الحزب الشيوعي السوري، وخصوصاً بعد عودته من فرنسا، حيث تابع هناك دراسة الطب، وأصبح الطبيب الشاب إلياس ورد عضواً في هذا الحزب، مكرساً علمه ونشاطه في خدمة نضاله.

كانت إنسانيته عميقة دون حدود، فكان يكره الظلم، وعنده شعور عميق بضرورة إحداث تغيير انعطافي في المجتمع باتجاه العدالة الاجتماعية.. اختلف فيما بعد مع الحزب في أشياء لم تكن جذرية، هو وبعض رفاقه أمثال بيير شدرفيان، وعادل ونس، وغيرهما، إلا أنه عندما جاء الامتحان الشخصي الكبير لهؤلاء المناضلين في عام 1959 اجتازوه حتى النهاية بنجاح.

يعتقل بيرشدرفيان ويستشهد تحت التعذيب، ويعتقل المحامي الشيوعي عادل ونس والطبيب إلياس ورد، ويرفضان معاً التخلي عن قيمهما الشيوعية وعن كرامتهما الإنسانية في الدفاع عن الأفكار التي يعتنقانها.

إن موقف هذين المناضلين اللذين برهنا، رغم كل عدم الإنصاف الذي لقياه من الحزب، كان يعبر عن عمقهما الإنساني، وقناعتهما العميقة بالمستقبل الذي يجب أن يكون أكثر عدالة وأكثر إنسانية. إن المأثرة التي قام بها الطبيب إلياس ورد يجب أن تكرّس مثالاً يقتدى بالنسبة للأجيال الشابة التي تعزّ عليها قيم الحرية والعدالة الإنسانية.

العدد 1107 - 22/5/2024