هل تقتصر الديمقراطية على صناديق الاقتراع؟

هلل الكثيرون لرياح الديمقراطية الوافدة على البلدان العربية من بعض الدوائر في الغرب، وبغض النظر عن صدق من يقف وراء هذا الوافد عبر الحدود، وعبر الثقافات، أو عدم صدقه، فإن هذه الديمقراطية المرادة لنا تظل مبهمة الملامح، لأنها كادت تقتصر على ملمح واحد هو ملمح التغيير عبر صناديق الاقتراع، وكأن هذه الصناديق- شفافة أو غير شفافة- فيها الحل السحري لكل مشاكلها..

إن طرح مفهوم الديمقراطية بهذا الشكل المتسرع والمبهم أيقظ لدى الكثير من النخب الثقافية مخاوف وتحفظات كثيرة، بالرغم من إيمان هذه النخب بجوهر الديمقراطية نهجاً، لتأكيد حرية الإنسان واختياره وحقوقه في الحياة والتطلع للأفضل.

لا شك في أن الديمقراطية هي مسألة أساسية تماماً، وتدخل في صلب أي عملية إصلاح أو نهوض يمكن أن يحدث، ولكن أي ديمقراطية نريد؟ وأي اجتهادات ديمقراطية تكون بالنسبة لنا أكثر قدرة على الحياة والتفاعل مع الواقع بجذوره وفروعه المتشابكة، دون تعسف ولا اصطناع؟!

فالديمقراطية بكل تجلياتها الجوهرية هي نشاط إنساني، ومادامت كذلك فلابد لها أن ترتكز على أسس ثقافية وثيقة الصلة بالإنسان الذي يمارسها، أي تجد الاجتهاد الملائم لهوية كل إنسان في حقل الممارسة الديمقراطية.

إن الديمقراطية هي ممارسة وإبداع يومي تتكفل مختلف عناصره بتخفيف الضرر الناجم عن تكليف قطاع واسع من الناس لممثلين منهم بإدارة شؤونهم خلال فترة من الزمن، وإن الشعوب كالأفراد لا تتعلم إلا من تجاربها الناجحة والفاشلة، وأضمن وسيلة للتعلم هي الشروع في التعلم باكراً.

لكن هذا التعلم المبكر، على أي منهج ديمقراطي سوف يسير؟ ومن أي ينبوع للحريات سوف يرتوي؟ فثمة ملاحظات ثاقبة بدأت تنتبه للديمقراطية الشكلية التي لا تعني- في أفضل صورها المعروضة علينا- إلا تسلط الأكثرية، بينما الذي يراد منها أخلاقياً وحضارياً أن تكون معبرة عن التعددية، واحترام حقوق الإنسان الفرد، دون جور ما يبدو أنه أغلبيات، أغلبيات تحصل على مواقعها لأسباب لا تتعلق بالاختيار الرشيد، بل بغوغائية الخطاب الذي يداعب الغرائز السياسية أو الاجتماعية أو الدينية لجمهور الناخبين، خاصة إذا كان الجهل والأمية يسودان هذا الجمهور.. وليس هذا وقفاً على ما يمكن أن يحدث في المجتمعات الموصوفة بأنها مجتمعات متخلفة فقط، بل هي ظاهرة ملحوظة ومروعة في كثير من (الديمقراطيات الغربية) (النموذج) التي يفوز بثمرتها الآن من هم أكثر مجاهرة بالتوجهات المنغلقة والمتعصبة عرقياً والمتعالية على الآخرين من العالم (الآخر) في البلدان الفقيرة والمتخلفة، بل حتى (الآخرين) داخل المجتمع الغربي نفسه.

إذاً، لابد من المراجعة والبحث عن مكمن الخلل هنا، أو عقدة الافتراق بين الديمقراطية الشكلية المقصورة على أطرها السياسية، والديمقراطية مشمولة بالقيم العليا الإنسانية الكائنة في جوهرها الحضاري والأخلاقي.

إن التحفظات الناشئة في مواجهة عصف رياح الديمقراطية القادمة من الغرب واحتمالات تعسفها، ليست وقفاً على الكثير من النخب في البلدان العربية، فالنخب الغربية نفسها يعتري بعضها القلق بسبب تشوه المثل الأعلى في الديمقراطية الغربية، بل أصبح هناك من يطغى في الشرعية التاريخية لها كتجربة سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، مثل المؤرخ الأمريكي جون لوكاش في كتابه (الديمقراطية والشعبوية- الخوف والحقد) وغيره من الكتاب والمؤرخين، إذ يؤكد معظمهم أن المسار الذي تسلكه الديمقراطية في المجتمعات الغربية يكاد يقترب حثيثاً من مثيله التوتاليتاري في ألمانيا النازية.

إنهم يؤكدون أن العلة على هذا الصعيد، ليست فيما يتضمنه هذا المفهوم من قيم اجتماعية وإنسانية، بل في تحول التجربة نحو شكل من الشعبوية الجارفة التي أخذت تهيمن على مفاتيح السلطة السياسية، وتصادر وسائل الإعلام على اختلافها، وتلقي بتأثيرها على أذهان الأكثرية الساحقة على نحو يذكّر بغسل الأدمغة. إنهم يفرقون بين ممارسة الديمقراطية وتجييش الأكثرية للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، بذريعة أن نظاماً سياسياً كهذا يفترض هذه الممارسة الاقتراعية، بغض النظر عن المشاعر والهواجس أو حتى الأفكار العدوانية التي تفعل فعلها في الناس. إنهم يرون في هذا السياق أن الأكثرية التي تمارس حقها الانتخابي، إنما تستخدم هذه الآلية السياسية، على نحو انتهازي، للتعبير عن ميول شعبوية ساحقة، هي في الواقع منافية للتجربة الديمقراطية، بل تشكل مقتلاً لها.

إن الديمقراطية الليبرالية في سياق هذا التحليل البنيوي، قد استبدلت بها الشعبوية الديمقراطية، وهذه الأخيرة قد أفسحت المكان لتجربة أخطر هي القومية الشعبوية.

إن العلة الرئيسية فيما يسمى الديمقراطية الشعبوية تكمن في أنها تغرّب الأكثرية عن مصالحها الحقيقية، وتجعلها فريسة لأوهام لا علاقة لها بواقعها.

ويعزو الكثير من الكتاب الفرنسيين بداية تحلل النظام الديمقراطي بشروطه الليبرالية، إلى نهاية القرن التاسع عشر حينما أخذت تتكون في أوربا الإيديولوجيات الشعبوية الشاملة، واعتماد الديمقراطية على صندوق الاقتراع، ويذهبون إلى الاعتقاد بأن اللغط الحاصل بين الديمقراطية والشعبوية أدى في أوربا إلى ضمور عدد كبير من الأحزاب التي ترفع شعارات إنسانية مهمة، وبروز أحزاب أخرى قادرة على تجييش الناس بشكل جماهيري.. ويخلصون إلى حقيقة قد تصدم الكثيرين بدلالاتها القاسية، وهي أن الضمور الذي طرأ على الديمقراطية بقيمها الإنسانية، من شأنه أن يخلي الساحة الدولية لغزو منظم للإيديولوجيات الوحشية التي يصعب ترويضها أو إخضاعها لمنطق التعقل. وإذا كان هذا هو حجم وإطار القلق لدى النخب الغربية إزاء ما لحق بالقيم الديمقراطية ذات الأبعاد الحضارية من تآكل، بل تكريس لغوغائية الأعلى صوتاً، والأمهر في مغازلة الميول المتعصبة لدى الجماهير، فما بالنا في واقع البلدان العربية الذي تقدم تربته المثقلة بتراث الطائفيات والعصبيات والقبليات والعشائريات من حقل خصب لنمو الغوغائية بل الهمجية تجاه المختلف والمعترض والمغاير؟

إنها همجية مخيفة يمكن أن تأتي ببساطة عبر صناديق الاقتراع، في ظل أمية غالبة تقارب نسبتها ستين في المئة، فضلاً عن الأمية الثقافية لدى كثير ممن أفلتوا من أمية القراءة والكتابة، فهل يعني ذلك رفض الديمقراطية عامة وتحبيذ نقيضها؟

بالقطع لا، فلاتزال الديمقراطية هي الاجتهاد الإنساني الأفضل لصون حقوق الناس في المجتمعات المعاصرة، شرط الحذر من تفريغها من محتواها الإنساني والحضاري، ومن هنا تلوح الديمقراطية كحقل رحيب يتسع للاجتهادات التي هي ثقافية حتماً.

إن صمام الأمان لضمان عدم تفريغ الديمقراطية من محتواها الإنساني الأهم المرتبط بقيم الليبرالية، التي تعني حق الاختلاف واحترامه، والحرص على التعددية وصون كرامات الناس، بتحقيق العدالة بينهم، ورفعة القانون.. إن كل هذه التحصينات لمفهوم الديمقراطية الحضارية، لا الشعبوية الغوغائية، لا يمكن الارتقاء إليها، إلا برفع أداء الناس الحضاري لتكون اختياراتهم أكثر رشداً، وأحكامهم أصلح، وهذا طموح لا سبيل إليه إلا بالتأني واحترام واقع الشعب وثقافته وتراثه وتوسيع رقعة الثقافة وتأثيراتها، خاصة ثقافة الديمقراطية والحرية الفردية، حرية الرأي، حرية التعبير، حرية الفكر، ثم الحريات الجماعية، وهذه تتطلب المزيد من المداخلات المجتهدة، التي توائم بين هذه الثقافة، وتراث المجتمع، لصياغة تجربة خاصة توائم المجتمع، وتصبح آلية لتطوره السلمي نحو التحول الديمقراطي، ويبقى الموضوع مطروحاً للنقاش والاستمرار في الحديث حوله من جميع من هو مهتم بهذه المسألة المصيرية.

العدد 1105 - 01/5/2024