المحنة السورية وضرورة اللحمة المجتمعية!

اليوم، والحرب السورية الظالمة في خواتيمها، تبرز أمام البلاد، مهام بالغة التعقيد وتحتاج إلى جهود مكثفة من كل أطياف المجتمع السوري لتذليلها، وبالدرجة الأولى أمام أولي الأمر منهم الذين يملكون بأيديهم الأدوات الضرورية التي تفتح الطريق لذلك. ولعل أبرز هذه المهام: إعادة اللحمة والتماسك للشعب السوري، هذه اللحمة التي أصابها الكثير من الخلل. ويمكن القول إنه لا توجد في المجتمع السوري عائلة لم تلامسها هذه الحرب القذرة التي أدت ولا تزال تؤدي حتى الآن إلى إهراق الدم السوري دون ثمن.

إذاً، إعادة اللحمة للشعب السوري وللمجتمع السوري، ستكون هي المهمة الأولى، وإن تذليلها يحتاج إلى العديد من المقدمات الضرورية والتي لا غنى عنها لحل هذه المهمة البالغة التعقيد، وربما أبرزها الانفتاح المجتمعي وإعادة النظر بجميع الأسباب التي شكلت أرضية لما جرى في سورية. ولا شك أن المضمون العميق لهذا الانفتاح المجتمعي يكمن بالدرجة الأولى في إحداث تحول جذري في البلاد بما يخدم التطور المدني فيها. أي تعزيز التطور الديمقراطي وتعزيز فكرة المواطنة عوضاً عن الرعية، واتباع سياسة اقتصادية اجتماعية لا تنطلق من مصالح فئوية ولا تهمش أية شريحة من شرائح المجتمع السوري.

وباختصار: إن تعزيز الوحدة الوطنية في سورية يمر عبر المجتمع المدني الذي لا يهمش أحداً، والذي يشعر كل مواطن فيه بأنه شريك في هذا البلد، يساهم مع غيره في بنائه وتطوره وازدهاره.

إذاً، إن إعادة اللحمة للنسيج السوري يمر، بالدرجة الأولى، عبر هذه الطريق، ولكنها ليست المهمة الوحيدة، فهناك أيضاً مهام أخرى من الضروري حلّها بصورة تؤدي إلى تعزيز هذا التلاحم، وأبرزها إعادة إعمار ما خلفته الحرب المدمرة التي أدت إلى تحطيم ما بناه الشعب السوري خلال سنوات طوال.

إن إعادة الإعمار يجب أن تنطلق من الأولويات الأساسية التي تخدم مصالح الشعب السوري بالدرجة الأولى، ومصالح المجتمع السوري عموماً.

إن إعادة الإعمار يجب أن تنطلق من الأولويات. والأولويات تبدأ من:

أ- إعادة عجلة الإنتاج إلى البلاد. أي إعادة ما خرّبته هذه الحرب من مصانع ومعامل ومؤسسات إنتاجية، إلى تدوير العجلة الاقتصادية، لأن الإنتاج هو أساس ازدهار أي بلد وتطوره اللاحق.

ب- إعادة بناء وترميم البنى التحتية المتعلقة بمسائل النقل والمواصلات كالسكك الحديدية والطرقات وغيرها.

ج- إعادة إسكان المهجرين من خلال إعادة الإعمار السكني الشعبي الذي لا يكلف أموالاً طائلة.

د- التقليل من الهدر والبذخ والاجتماعات المكلفة وغير المنتجة، فسورية بحاجة إلى توفير كل الموارد من أجل تحقيق هذه الأولويات. أي، إن هذه النقاط الأربع يجب أن تكون البداية، لا أن يجري تكرار تجربة السنوات الماضية التي جعلت وحولت الاقتصاد السوري إلى اقتصاد ريعي بصورة عامة.

لا شك أن مسائل السياحة والخدمات وغيرها وغيرها، هي هامة ولكن تأتي بالدرجة الثانية، تأتي عندما تستطيع البلاد إنجاز المهام التي تحدثنا عنها.

كذلك تقتضي إعادة اللحمة إلى النسيج السوري إعادة النظر بالسياسة التعليمية التي اتبعت في الفترات الماضية، وأبرز ما يجب إعادة النظر فيه هي:

1- ربط التعليم بالثقافة وبالفكر النقدي، لأن من شأن ذلك أن يعزز الروح العلمية لدى الجيل الشاب.

2- ربط التعليم بالعملية الاقتصادية الاجتماعية.

إن الأفكار السلفية والتكفيرية التي ظهرت عند قطاعات واسعة من الشبيبة السورية، ما كانت لتظهر لو جرى تعزيز التعليم وربطه بالثقافة وبالعملية الانتاجية.

كذلك من الضروري إحداث انعطاف بالتعليم الديني أيضاً، ويجب أن يبرز ذلك من خلال إظهار الجانب الإنساني في الفكر الديني وتدريسه، وليست تلك التي كانت مرتبطة بظرف تاريخي محدد.

لا شك أن القيام بحل مجمل هذه المهام سيساهم مساهمة غنية وجدية في إعادة سريعة للوحدة الوطنية السورية التي كانت تفتخر فيها سورية دائماً، والتي كانت سباقة في هذا المجال.

إن سورية هي إحدى البلدان العربية الأولى التي انبعثت منها أفكار التنوير.. أفكار الحرية والانعتاق من ظلام القرون الوسطى.. ويستحق الشعب السوري أن يكون جديراً ومكمِّلاً لرواده الأوائل الذين هيّؤوا له اللبنات الأولى الضرورية لتطوره ومستقبله المشرق والمزدهر.

العدد 1105 - 01/5/2024