سورية المستقبل

 قبل التطرق إلى رؤية سورية المستقبل لابد من إلقاء نظرة على أبرز معالم سورية منذ فجر الاستقلال حتى عام 2011، ففي 17 نيسان من عام 1946 جلا آخر جندي فرنسي عن أرض سورية دون قيد أو شرط، فكانت سورية أول بلد عربي انتزع استقلاله بفضل نضالات الشعب العربي في سورية، وتضامن الشعوب العربية معه، وبفضل تأييد الاتحاد السوفييتي الذي حقق الانتصار الساحق على النازية.

 ومنذ البدء تكاثرت المؤامرات لتقويض استقلال سورية عن طريق ربطها بالأحلاف العسكرية، مثل حلف بغداد، وطرح المشاريع الوحدوية المشبوهة مثل مشروع سورية الكبرى البريطاني بهدف جرها إلى ظل الانتداب البريطاني مرة ً ثانية، وبدأت سلسلة الانقلابات العسكرية تدور حول هذه الأحلاف والمشاريع الوحدوية المشبوهة. فكان تحالف القوى الوطنية والديمقراطية هو الصخرة التي تكسرت عليها هذه المشاريع.

 وأبرز تحالف آنذاك هو تحالف الحزب الشيوعي السوري وحزب البعث العربي الاشتراكي وفئات واسعة من ممثلي البرجوازية الوطنية وممثلون عن الجيش العربي السوري، كان تعبيراً عن الاتحاد بين الجيش والشعب، وتوج الاستقلال السياسي بالاقتصادي الذي بدأت خطواته بتأميم المرافق التي كانت لاتزال تحت سيطرة الرأسمال الأجنبي، مثل سكك الحديد والكهرباء وبنك الإصدارات، وتلا ذلك ضرب مواقع الإقطاع والبرجوازية الكبيرة بتوزيع الأرض على الفلاحين وتأميم الشركات الرأسمالية والشروع ببناء المشاريع الاقتصادية، مثل مشروع سد الفرات واستخراج الفوسفات وتوسيع مرفأ طرطوس، ورصد توظيفات حكومية ضخمة للاستثمار خاصة في قطاع النفط والكهرباء والري والمواصلات وفي الخدمات الصحية والتعليمية التي أدت إلى تحسين شروط المعيشة في الأرياف، فتغيرت بيئتها الطبقية ووصلت وتيرة النمو للدخل الوطني إلى مستوى 10-15% سنوياً في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، وتحققت مكاسب طبقية للعمال والفلاحين وسائر الكادحين على قاعدة الصراع الطبقي الجاري في البلاد، وهذا يتطلب عدم التوقف وعدم التراجع، ويتطلب أيضاً توسيع الهامش الديمقراطي لتزج فئات الطبقات الكادحة في مجرى الصراع الطبقي لصون المكتسبات وتطويرها.

إلا أن الممارسات جاءت بعكس هذه المتطلبات، وتجلى ذلك بالتوقف شبه الكامل عن التنمية، وانتهاج سياسة اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي، على حساب دور الدولة في التنمية والرعاية الاجتماعية، ما أدى إلى ضرب ورشات الصناعة الصغيرة والحرف خاصة في حلب، واستملاك الأراضي في المدن بأسعار زهيدة، وهذا ما ولّد استياء لدى أصحاب هذه الأراضي والورشات الصناعية الصغيرة، إضافةً إلى الاستياء الشعبي المتعاظم بسبب استفحال البطالة وعدم إيجاد فرص عمل حقيقية، وانخفاض المستوى المعيشي للجماهير الشعبية، مع استمرار الصيغة السياسية في إدارة البلاد التي لم تعد صالحة لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية، والمبالغة في دور القطاع الخاص وإسهامه في تنمية الاقتصاد الوطني، والتباطؤ في معالجة صعوبات القطاع العام الذي أسهم في تمويل أكثر من 65% من الموازنة العامة للدولة. ومعروف انه عندما يضعف الاقتصاد الوطني فعاجلاً أم أجلاً لن يبقى في الدولة والمجتمع أي شيء قوي. كما تعاظمت حركات الإسلام السياسي على النطاق العربي والعالمي، على خلفية عجز الأنظمة العربية في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وحل مشكلة البطالة وفقر الطبقات الشعبية وضعف الهامش الديمقراطي، ما حال دون تمكين قوى اليسار من تعبئة الفئات الشعبية في المشروع الوطني الديمقراطي، وتعاظم دور التيار الجهادي التكفيري الذي وجد مرتكزاته الفكرية من ابن تيمية إلى محمد عبد الوهاب والسيد قطب، وشكل ذلك عجز الفكر الإسلامي الإصلاحي من الانتقال من الدولة الإقطاعية المغرقة في الرجعية إلى الدولة المدنية الحديثة.

كل ذلك شكل العوامل الداخلية للأزمة في سورية، ووجد فيها الأمر الإمبريالي الفرصة سانحة للانقضاض على الموقف الوطني الممانع والداعم والمكون لمحور المقاومة، وانفجرت الأزمة المركبة بعواملها الداخلية والخارجية وأحدثت زلزالاً مريعاً أدى إلى سقوط عشرات الألوف من الشهداء ومئات الألوف من الجرحى والمعاقين، وأكثر من نصف السكان مهجرين ونازحين داخل البلاد وخارجها يعانون البؤس والإذلال في الدول المجاورة. وتعمقت دائرة الفقر والبطالة، وانتشرت الأمراض الاجتماعية كالخطف والسرقة، وبرزت الانتماءات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وتبعثر شمل العائلات وتدمير البنية التحتية والمدارس والمستشفيات والأملاك العامة والخاصة، وأحرقت أبار النفط وصوامع الحبوب ومحطات توليد الكهرباء وفكفكة المصانع وسرقتها، وحطمت المعالم الحضارية والتراثية ونهبت محتوياتها، وغدا أكثر من نصف مساحة البلاد ومعظم المعابر الحدودية مع دول الجوار خارج سيطرة الدولة، وأعلن ما يسمى الدولة الإسلامية (داعش)، واستمرار هذه الحالة يهدد بتقسيم البلاد أرضاً وشعباً، حتى دخول سلاح الجو الروسي أرض المعركة إلى جانب الجيش العربي السوري ومحور المقاومة فرجحت الكفة لصالح الجيش، وحرر حلب والقلمون وريف سلمية الشرقي ومحور تدمر دير الزور التي فك الحصار عنها وتحرير القرى في ريفها الشرقي وتحرير أكثر من 90 % من المساحة التي كان يسيطر عليها المسلحون، وأصبح مشروع تقسيم سورية خلف ظهورنا واقتربت وحدة سورية أرضاً وشعباً من نقطة النهاية.

إن شعبنا الصامد الذي وقف في وجه المسلحين التكفيريين وشذاذ الآفاق الذين قدموا من أكثر من ثمانين دولة بالآلاف مدعومين من محور العدوان، من أمريكا وإسرائيل وتركيا وقطر والسعودية والعديد من الدول الأوربية، والذي قدم التضحيات الجسام، يستحق أن يعيش في دولة مدنية علمانية وديمقراطية تعددية بمحتوى تقدمي، وهذا يتطلب معالجة جراح الحرب الثخينة بالاهتمام بأسر الشهداء والجرحى والمعاقين وخلق المناخات لعودة المهجرين إلى بيوتهم، ونشر روح التسامح، وبذل الجهود لمحاربة الفكر الإرهابي التكفيري وتخليص جماهير المؤمنين من تأثيره. وذلك بالحوار الوطني الشامل الذي يعالج قضاياهم العادلة ويضع الأساس لإيجاد الحلول الجذرية لها، والاستمرار في تحرير الأجزاء من الوطن التي لا تزال تحت سيطرة الإرهابيين، والوقوف ضد النزعات الانفصالية بالتمسك بوحدة الوطن أرضاً وشعباً وبخيار الحل السياسي والمصالحات الوطنية، وهذا يتطلب تغيرات في بنية النظام السياسي للتمكين من اتباع النهج الديمقراطي التعددي القائم على مبدأ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع أبناء الشعب والإفراج عن جميع الموقوفين السياسيين ممن لم يحملوا السلاح وإنهاء ظاهرة الاعتقال الكيفي وتحديد مصير المفقودين والمخطوفين، واستئناف التنمية الاقتصادية بدعم القطاعين الصناعي والزراعي وخلق البيئة المناسبة لزيادة استثمارات القطاع العام واستقطاب الرساميل الوطنية والمهاجرة بسبب الأزمة وهي تقدر بالمليارات، ومئات الشركات الاقتصادية، لخلق فرص عمل حقيقية جديدة، وتحسين نوعية الخدمات الاجتماعية على مستوى المجتمع.

إن النموذج الاقتصادي الذي يلائم ظروف بلادنا هو نظام التعددية الاقتصادية بقيادة قطاع الدولة العام عبر خطط اقتصادية واجتماعية متكاملة لتحقيق التنمية والتوزيع العادل للدخل الوطني، والإقلاع عن سياسة اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي التي أضرت بمصالح الشعب والوطن، وكانت من الأسباب الرئيسية للأزمة التي تعيشها البلاد، وإحداث صندوق خاص بإعادة الإعمار. موارده من تعويضات الدول التي دعمت الإرهاب، واستعادة الأموال من الخارج التي نهبت من الدولة، والمنح والمساعدات من الدول الصديقة إضافة إلى الموارد الوطنية. إن دستور البلاد لعام 1973 هو من مكونات الصيغة السياسية التي تدار بها البلاد وأصبح معيقاً ومن الأسباب الرئيسية لعوامل الأزمة الداخلية، ورغم التعديلات التي أدخلت على الدستور عام 2012 إلا أنه ما يزال ضرورياً إدخال المزيد من التعديلات، فقدمت روسيا الاتحادية ضمن جهودها لإنجاح الحل السياسي بمشروع دستور. علماً أن هذا من اختصاص السوريين وحدهم، فاجتهد الحزب الشيوعي السوري الموحد وتقدم بمشروع مبادئ عامة يمكن الاستناد عليها لصياغة دستور جديد يتوافق عليه السوريون، ونشر في جريدة (النور) للنقاش العام.

يمكن أن نستعرض هنا بعض محطاته: قيام النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية وتداول السلطة – عدم جواز قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس ديني أو طائفي – الحظر على كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية والإرهاب الفكري والتطهير الطائفي- المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون ويضمن حقه في الإسهام بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والإضراب عن العمل – النص على عدم تحديد دين رئيس الدولة وكذلك التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع – النص على فصل السلطات وتدعيم السلطة التشريعية بمنح الحق لمجلس الشعب منح الثقة للوزارة بعد تقديم بيانها أمامه والمناقشة من قبله، وتدعيم السلطة القضائية بالنص على تشكيل مجلس القضاء الأعلى من تسعة مستشارين الأقدم في محكمة النقض وانتخاب رئيس المجلس من قبلهم، وتسمية المحكمة الدستورية من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الشعب ومجلس القضاء الأعلى بنسب متساوية يكون أقدمهم رئيساً – النص على اتجاهات السياسة الاقتصادية والتنمية والنشاط الاقتصادي العام والخاص وفق خطط تنمية اقتصادية واجتماعية هادفة إلى زيادة الدخل الوطني وربطه بالعدالة الاجتماعية وخلق فرص عمل جديدة للوصول إلى تنمية شاملة ومتوازنة ومستدامة وصولاً إلى الاشتراكية.

 

العدد 1107 - 22/5/2024