استراتيجية إحلال حدود عرقية ومذهبية محلّ الحدود الوطنية

 مع انتشار مسار العولمة في العقود الأخيرة من القرن الماضي ظهرت تحديات كبرى بالنسبة لجغرافية الدول ولحدودها الوطنية، ذلك أنه في ضوء مقولات إلغاء الحدود ودخول العالم مرحلة السماوات المفتوحة، بل وتحوله إلى قرية صغيرة مع انتشار الشركات المتعددة الجنسيات، وتعاظم نفوذها في مختلف القارات، تكاثر الحديث أيضاً عن الكيانات العرقية والمذهبية، وانتشرت على أنقاض الحدود الوطنية للدول حدود أخرى أكثر تجزئة وأكثر انغلاقاً على نفسها، الأمر الذي يستدعي التوقف عند إشكالية الحدود وفق رؤية جديدة أكثر واقعية وأكثر بعداً عن المزايدات السياسية، لأن الحدود على صعيد الواقع هي بمثابة سياج رمزي من أجل تحديد المجال الذي تتحرك فيه الهويات الشخصية والجماعية للأفراد والأمم، وبالتالي يتطلب الأمر الحرص كل الحرص على ألا تتحول المثل السياسية الجامعة وعناصر الهوية المشتركة إلى أدوات للهدم وتقويض ما حققته الكيانات الوطنية من مكاسب للشعوب وللنخب السياسية التي مازالت تؤمن بضرورة الدفاع عن الحدود الوطنية للدول وأهميته في مواجهة المشاريع الاستعمارية التي تريد أن تدفع الشعوب إلى تبني أجندات مختلفة ضد دولها الوطنية.

بداية يجب الاعتراف بأن مسألة الحدود هي مسألة أخلاقية وثقافية بالدرجة الأولى، وأن من يرفض الاعتراف بها، هو بمثابة من يرفض تقبل استقلالية الذات وخصوصياتها الهوياتية، لأنه لا يرى الأبعاد المركبة للحدود وينظر إليها من خلال تجلياتها الجغرافية فقط. جدير بالذكر أن حرص الإنسان على رسم الخطوط والحدود الفاصلة بين الأشياء هو رفض في الوقت نفسه لواقع (اللاتعيين واللا تحديد) الذي يمثل عنواناً للفوضى العارمة.

وبناء على ذلك، فإن البديل عن الحدود التي تقبل بتعدد الكيانات وتحترم التنوع والاختلاف هي الجدران التي تُقصي وتلغي الآخر وترفض وجوده وهويته، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ريجيس دو بري. وبالطبع تمثل الحدود أبلغ رد على سياسات الجدرن العازلة، لأنها توفر احترام الآخر، وتحرص في الوقت نفسه على احترام استقلال الهويات المختلفة. من هنا يتضح أن الدعوات إلى تقويض الحدود الوطنية وإلغائها هدفها هو العودة إلى أكثر أشكال الحدود تخلفاً وهمجية، وأن تحلّ محل هذه الحدود الوطنية حدودٌ قبلية وعرقية ومذهبية، ما يقود إلى إلغاء مفهوم المواطنة أو المشاركة السياسية داخل دولة مدنية تحترم خصوصيات مواطنيها. إلى جانب ذلك فإن اختراق الحدود الوطنية هو ضياع للمؤسسات الوطنية التي وُجدت بالأساس لكي تجسد تطلعات الشعوب ورعاية مواطنيها.

إذاً.. الحدود تعبر عن دلالات ومعاني مسكن الكائن، ومن لا حدود له لا يمكن أن يدعي استقلاليته في مسكنه الوجودي الخاص. ومن الواضح لكل متابع للأحداث أن العالم في هذا الزمن صار أكثر انقساماً وأقل تقبلاً للاختلاف بسبب تقويض الحدود الوطنية للدول. وعلى سبيل المثال وُضع أكثر من 27 ألف كم من الحدود الجديدة في أوربا ومنطقة أوراسيا منذ عام 1991 الذي احتفل فيه العالم بإعادة توحيد شطري ألمانيا. علاوة على ذلك، هناك الآلاف من الجدران والمحيطات الإلكترونية والأسلاك الشائكة التي توضع في مناطق متعددة من العالم، وتقوم إسرائيل ببناء جدار عنصري لعزل الفلسطينيين وحرمانهم حتى من التواصل فيما بينهم. وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة جدار إلكتروني كبير على حدودها مع المكسيك من أجل منع مواطني أمريكا الجنوبية من الدخول إليها.

إجمالاً يمكن القول إن اختراق حدود الدول هو استباحة لاستقلالها وشرفها وعرضها، واعتداء سافر على خصوصياتها، وهو يشبه الدخول إلى البيوت من النوافذ دون استئذان. أما الذين يسعون إلى إلغاء الحدود باسم (الأديان) فهم يتناسون أن عالماً دون حدود هو في الأساس عالم من دون أديان، لأنه عالم يُصفّي كل حساباته مع الاختلاف ما بين العقائد وداخل العقيدة الواحدة نفسها، وبالتالي فإن اختفاء الحدود كما يقول دوبري يتمثل عودة مشوهة للعتيق الذي يعني البداية لأزمة الهوية، حيث تصبح القبائل والعرقيات هي البدل عن الذوات المستقلة وعن الفئات الاجتماعية المتآلفة.

إن ما تقدم ذكره حول محاولات تقويض الحدود الوطنية وإحلال حدود قبلية وعرقية ومذهبية محلّها ينطبق على ما يجري في بعض دول الوطن العربي، بدءاً من ليبيا مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية، حيث تحاول مجموعات إرهابية مسلحة مدعومة من أمريكا والغرب عامة وإسرائيل وبعض دول الخليج وتركيا إيجاد كيانات عرقية وعشائرية وحتى مذهبية في هذه الدولة، وبمعنى آخر تقسيمها إلى كيانات هزيلة بديلاً عن الكيان الوطني العام الذي يحترم التنوع والاختلاف، وذلك في ظل ما يسمى بالربيع العربي، ولا شك بأن إيجاد مثل هذه الكيانات الهزيلة يقدم أكبر خدمة لإسرائيل التي تعمل على تحقيق (يهودية دولة) إسرائيل وطرد الفلسطينيين منها.

العدد 1105 - 01/5/2024