«سأخون وطني».. سخرية لاذعة…محمد الماغوط… سياسة الصوبيا أولاً!

1- ربما يتساءل البعض: هل كانت حالة محمد الماغوط بانتمائه لحزب يملك (الصوبيا) في بداية وعيه السياسي، وابتعاده عن الأحزاب الأخرى التي لم يجدْ في مكاتبها الدفء الذي كان يحتاجه، هي نوع من الانتهازية يوم ذاك، وهو الذي صار يرفض ويحتقر أيَّ عمل انتهازي في أدبياته وفي حديثه العام فيما بعد، ثم في ذلك الوقت كانت المصادفة أن كان الفصل شتاءً والجو صقيعاً، فماذا لو كان الفصل صيفاً، هل كان سينتهز وجود المروحة مثلاً في مكتب حزب آخر، أم سيبحث عن الحزب الذي يوزع في مكتبه المثلجات في لهيب الصيف الحار؟

 كان تبريره لذلك بأن هذه ليست انتهازية بل هو إحساسه بأنَّه لمسَ أنَّ هذا الحزب يحترم الواقع والحاجات الشخصية لأعضائه ولرواده آنَ ذاك، وإن الحزب الذي يحترم الأفراد أولاً، هو من سيحترم الوطن وسيحترم الأهداف والبرامج التي تأسس الحزب عليها لاحقاً، ثمَّ إن السياسة وبكل بساطة يجب أن تقوم على المبدأ العفوي البسيط الذي تكلم به أجدادنا سابقاً، بأنَّ من لا يطلب الخير لنفسه أولاً ولأهله ثانياً فلن يطلب الخير للمجتمع وللوطن ثالثاً، والسياسة هي مصالح متبادلة بين الوطن والأفراد في الحقوق والواجبات.

ثم إنه يحترم الحزب الذي يهتم في اجتماعاته بمشاكل الناس اليومية المعيشية والخدماتية، قبل أن يهتم بالبحث في مواضيع السياسة المجردة القائمة على النظريات الجوفاء، البعيدة عن مشاكل المجتمع الآنية.

***

2- سأخون وطني هو عنوان أحد أكثر مؤلفاته المثيرة للجدل، بالتأكيد إن الخيانة بمفهومها المعتاد هي فعل إجرامي لا يحترمه أحد، وليس محمد الماغوط من يخون وطنه الذي أحبه، والذي مكث فيه طوال حياته لم يغادره أبداً، ولم يطمع بالدخل المادي الذي كان سيناله لو اهتم بالرحيل والإقامة في بلاد أخرى.

عبارة (سأخون وطني) هنا هي مثل قول الأم لابنها: أنا لا أحبك، أو بالعكس أيضاً كعبارة الطفل الذي يقول لأمه: أنا لا أحبك، فهي تعبير مجازي عاطفي يعني المحبة بالتأكيد، وقد تكون بمعنى المحبة بشروط بسيطة، وعلى الأم أن لا تبخل على طفلها بالنظر في هذه الشروط .

(سأخون وطني) بمفهومها العاطفي، لها معنى الطلب والرجاء من الوطن أن يبتسم في وجه مواطنيه، أن يحتضنهم بحب كاحتضان الأم لأولادها، مهما كانت ألوانهم وأشكالهم وآراءَهم وأفكارهم، فالوطن هو الأم للجميع حتماً.

محمد الماغوط يهدد بعاطفة المحب بأنه سيخون الوطن الذي تكون سجونه أكثر عدداً من مدارسه.

سيخون الوطن الذي يُنشئ الأرصفة، ويمنع حرية المشي عليها، ويقيم الجسور ويمنع عبورها.

سيخون الوطن الذي يسمح بتوزيع صناديق البريد، ويمنع تبادل الرسائل!

سيخون الوطن الذي يعطيه الخوف، ويأخذ منه الأمن والأمان، ويفرض عليه العبودية ويمنع عنه الحرية.

محمد الماغوط سيخون الوطن النائم في الفقر والعوز والتخلف، إن لم ينتفض مستيقظاً، ويصحو ولو متأخراً.

سيخون الوطن الذي يرتعب فيه المواطن، عندما يسمعُ طرقاً على بابَ بيته، ويتوجسُ خوفاً عندما يرن هاتفه.

***

3- عندما تقرأ محمد الماغوط لا بد أن تدمع عيناك باللاشعور، حتى إن أحد النقاد قال ممازحاً ما معناه إنَّ محمد الماغوط يقدم لك صحن البصل المقشر طازجاً مع كل سطر تقرأه.

تدمعُ عيناك لأنك ستضحك أولا وأنت تقرأ السخرية من الوضع القائم من حولك، ثم سرعان ما ستبكي عندما تكتشف أنك أنت المعني شخصياً في كتاباته، أنت الإنسان المهزوم دائماً الذي يتراقص من حولك الأقزام الذين هزموك سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً حضارياً، إلى كلِّ مجالات الانهزام.

***

4- محمد الماغوط هو واحدٌ من المفكرين الذين قاموا بتصنيع وتشذيب وتهيئة الحجارة الفكرية والثقافية الصحيحة، وتركوها أمانةً بين أيادي الجيل الجديد من الشباب المثقف، لاستخدامها بالشكل الصحيح في بناء هذا الوطن.

العدد 1107 - 22/5/2024