المفكر الماركسي السوري إلياس مرقص

إلياس مرقص أحد أهم المفكرين الماركسيين الموسوعيين العرب، ولد في اللاذقية عام 1929 وحصل عام 1952 على شهادة العلوم الاجتماعية من بلجيكا، ألف وترجم عشرات الكتب ومنها (الماركسية السوفيتية والقضايا العربية، نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري، الماركسية في عصرنا، تحطيم العقل – جورج لوكاتش، الدفاتر الفلسفية – لينين، المسألة اليهودية – باور ماركس). ونشر مقالاته في مجلتي (دراسات عربية) و(الفكر القومي) وساهم في تأسيس مجلتي (الواقع) و(الوحدة)، ودار نشر (الحقيقة) في بيروت.

تعرفت على مؤلفاته من صديق يساري في اللاذقية أواخر سبعينيات القرن الماضي من خلال كتابه (تاريخ الأحزاب الشيوعية) الذي كان استيعابه بالنسبة لشاب بعمري في ذلك الوقت هو الأسهل بين الكتب ذات اللغة الفلسفية الصعبة التي جهدت بعد ذلك في فك طلاسمها جهداً كبيراً. وفي عام 1987 تعرفت إليه شخصياً في مكتبة (فكر وفن)، كان يرتدي معطفاً طويلاً غامق اللون يخلف شعوراً بالرهبة مع مسحة صرامة أيقونية على وجهه، لكنني سعدت بحديثه الفلسفي العميق، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة، إذ كانت إقامتي في القرية وقليلاً ما أتردد إلى المدينة.

كان إلياس مرقص ناقداً فذاً يجمع بين الفلسفة والسياسة، يرتكز إلى منجم معرفي واسع فكراً وتاريخاً ولغة ورؤية وشخصية، رغم أنني طالما شعرت بالامتعاض من سلوكه الانتقامي من الحزب الشيوعي السوري، ومن فيض مبالغاته في الهجوم على الرفيق الراحل خالد بكداش، وعلى الستالينية، مما أوحى لي بأنه لا يأخذ في الحسبان الظرف التاريخي لخصومه، إضافة إلى توجسي من افتراض أن يكون عمله جزءاً من الحملة اليسارية الغربية المشبوهة على التجربة السوفيتية ومن محاولات شق صفوف الحركة الشيوعية، خاصة أنه أكسب الحريات السياسية المدنية وحقوق الأفراد أولوية على حساب  قضية التحرر الوطني والنتائج المترتبة على ذلك من محاصرة للتطور الذي أحدثته اللينينية: حق تقرير المصير- في مجال مقاومة الاستعمار على المستوى الدولي. وينحاز إلى هذا التوجس بعض الرفاق المعاصرين لخفايا علاقة إلياس مرقص بالحزب الشيوعي السوري، ورغم ذلك أضع توجسي في إطار حق الاختلاف المعرفي والتثاقف الندي ولا أنفي كون مؤلفات إلياس مرقص تعيد تأسيس العقلانية في الفكر المحلي، وتسهم في بناء الوعي العلماني الديمقراطي الطبقي والفكر الاجتماعي التقدمي لمناهضة التخلف المعرفي والإداري والتنظيمي، بقدر ما تؤسس لخلق مشروع ماركسي محلي من قلب واقعنا بخصوصية قومية تاريخية، إضافة إلى اعتباره الماركسية اللينينية نظرية الوعي الشامل لواقع ديناميكي تناقضي، غني متنوع، معقد، تاريخي حقاً وجدلي حقاً، حسب تعبيره .

بتاريخ 1993 صدر عن المجلس القومي للثقافة العربية  كتاب (إلياس مرقص والفكر القومي) وهو تدوين لمحاضر جلسات ندوة عقدت في اللاذقية 14 آذار 1992 بعنوان الكتاب نفسه، تخليداً لذكرى الراحل إلياس مرقص، تحدث فيها عدد من الباحثين في آرائه ومواقفه وحياته. فقد ذكر المفكر المغربي كمال عبد اللطيف أن المنعطف الفلسفي الذي أسهم إلياس مرقص في تأسيسه، لم يعنَ بالقضايا الميتافيزيقية التقليدية في تاريخ الفلسفة، فكان محوره الأساسي هو التاريخ، واهتم بقضايا الفكر السياسي القومي مستعيناً بروح ومنهج مسلمات وفرضيات الفلسفة الماركسية، متجاوزا الكثير من شواهدها النصية ذات الطابع المرحلي أو الطابع الأوربي. وأكد الكاتب رفض إلياس مرقص وثنية النماذج، وقال: (لا يمكن لماركسية معينة أن تتحول إلى وصفة سحرية ونموذج جاهز صالح لكل زمان ومكان ففاعلية الماركسية تكمن في انفتاحها وتاريخيتها).

أما المفكر السوداني حيدر إبراهيم فقد اعتبر إلياس مرقص من بين أهم المفكرين الماركسيين العرب ذوي الإسهامات التجديدية الرائدة في مجال تبيئة الماركسية، إلى جانب مهدي عامل وغيره. وأشار إلى الواقع في فكر إلياس مرقص الذي أسماه (جرد الواقع) ويعني التعرف عليه وفهمه وتحليله وينقل في هذا الإطار من أقواله: (الماركسية لا تأتي إلى العالم، إلى الواقع والجماهير من فوق، من أعلى، إنما من العالم، من الواقع، من البشر). كما أكد أن مرقص كان يرى نفسه مناضلاً من أجل الحقيقة بأكثر مما كان يرى في ذاته مناضلاً سياسياً.

المفكر الليبي ياسين العريبي تحدث عن تأسيس إلياس مرقص النظري على مبدأ الشك الديكارتي قائلاً: (أنا أشك إذا أنا أفكر). بينما أوضح الكاتب السوري وفيق خنسة إن الكتابة عن إلياس مرقص صعبة ومريرة، وإنه عندما يغادر إلياس مرقص المفكر إلى إلياس مرقص الإنسان يشعر بالمرارة والحزن معاً، لكم تحمّل وعانى! وكم كان راضيا بحياته البسيطة الخالية من كل أصناف الرفاه أو الراحة!

في كتاب (حول المسألة اليهودية، باور – ماركس) الذي ترجمه إلياس مرقص كتب مقدمة طويلة عن محتوى الكتاب الذي تتلخص مجمل تفاصيله في عبارة ماركس الختامية: (الانعتاق الاجتماعي لليهودي إنما هو انعتاق المجتمع من اليهودية)، أشار فيها إلى تصفية ماركس لبرونو باور التي هي تصفية للمثالية الفلسفية وجزء لا يتجزأ من تأسيس المادية التاريخية والجدلية عام 1845. ويتوسع المترجم في إحاطة تاريخية شاملة ومقاربات فلسفية لكل الجوانب المتعلقة بالظرف التاريخي السابق والمعاصر واللاحق لآراء ماركس في نقده لبرونو باور حول المسألة اليهودية، فيعتبر الصهيونية ليست امتداداً لليهودية بقدر ما هي بنت الإمبريالية وعصرها وموجوداته اللامتساوية، بنت أوربا الحديثة، ويدعم فكرته بمثال روتشيلد الذي يعتبره رمزاً للمنظومة الرأسمالية وممول الهجرة إلى فلسطين الذي يستخدم نفوذه الصهيوني في مختلف العواصم. كما يؤكد أنه منذ عام 1843 كان المشروع الصهيوني قيد الطبخ والإنضاج، وأنه كان يجري تمهيد متنوع فكري وتنظيمي في أوساط أدبية ولاهوتية لذلك.

عام 1991 توفي إلياس مرقص، وكذلك خصمه الأكبر التجربة السوفيتية. وفي جرد لواقع السنوات السبع وعشرين التي مرت على وفاته، في غياب الاتحاد السوفييتي، الغياب  الذي حرر روح السيطرة وتفرد الرأس الاستعماري الأمريكي بزمام المبادرة لأمركة العالم تحت شعار حقوق الإنسان والديمقراطية بالحديد والنار وطحن البشر وتدمير العواصم والمدن والقرى، قد يتساءل قارئ مؤلفات إلياس مرقص الذي لم يتحمل ستاليناً واحداً سحق النازية واضطرته ظروف بناء قوة الدولة الاشتراكية الفتية لمواجهة عنيفة مع غدر الخارج والداخل: كيف كان سيتحمل 85 مليارديراً بلا أخلاق ماركسية يحكمون هذا العالم وينتجون كل تناقضاته المعقدة أبشع تعقيد، يعتمون سمائه، وينهبونه ويقتلون ويشردون الملايين من أبنائه؟ ما الذي كان سيقوله إلياس مرقص وقد أعاد وعي البشر إلى الغاب أحفاد روتشيلد المتوحشين، ممولي الهجرة إلى الدولة المصطنعة التي تفرض على العالم الاعتراف بيهوديتها بلا حرج، وهو المتنبئ في كتابه (نقد العقلانية العربية) بأننا إذا انتكسنا فسننتكس إلى الغاب وشريعة الغاب؟ وكيف كان سيواجه مشروع تقسيم المقسم في بلدنا وهو الحالم بوحدة ناصرية من المحيط إلى الخليج أولاها جل اهتمامه؟ والأسئلة قد تطول حول جدوى المعارك الجانبية التي أسس لها بعض من تلقوا علومهم الاجتماعية في الغرب.

العدد 1107 - 22/5/2024