ترامب.. مسألة تحيّز الإعلام الأمريكي!

ترامب هاجم الإعلام الأمريكي، ووصفه بأنه يشن حرباً ضده، وقدم أمثلة متعددة عن المعلومات الزائفة التي نشرها عنه أثناء الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية، سواء كانت تلك المعلومات في الصحف أو في القنوات التلفزيونية، كما أنه وصف الصحفيين بأنهم (من أكثر المخادعين على وجه الأرض).

ومن خلال تحليل هذا الهجوم لترامب على الإعلام الأمريكي، تبين أن السبب ليس فقط تحيزه ضده أثناء المعركة الانتخابية، بل هناك أسباب أخرى منها تناول الإعلام لقضايا تخص دولاً أخرى، وانتقاده بقسوة مواقف هذه الدول، في الوقت الذي التزمت فيه الإدارة الأمريكية الصمت تجاه هذا التحيز الواضح. فبمعنى آخر، هذا الهجوم فتح الباب للتشكيك في معالجة الإعلام الأمريكي لقضايا عالمية.

لقد نشر الإعلام الأمريكي أنباء وتحقيقات عن فضائح نسائية لترامب، وتوسع في الإكثار من التوقعات حول هزيمة ترامب أمام منافسته هيلاري كلينتون، وظلت هذه التوقعات تحتل الجزء الرئيس في التغطية الإخبارية، في إلحاح واضح ونادر لدرجة أنه أقنع الناس داخل أمريكا وخارجها بأن كلينتون  ستكون رئيسة أمريكا القادمة، الأمر الذي كشف عن الحرفية العالية للإعلام في صناعة يقصد بها الإيحاء الذي يؤثر في تفكير من يتابع هذا الإعلام.

التحيز الإعلامي الأمريكي الشديد ضد ترامب كشف أن هناك تداخلاً بين الإعلام والدولة في أمريكا، نتيجة التداخل بين الإعلام والنخبة التي كانت الجهة الأولى المستهدفة من هجوم ترامب أثناء حملته الانتخابية، والتي تعد مركز النفوذ المؤثر في التوجهات السياسية للدولة، بدءاً من الرئيس في البيت الأبيض.. كما أن النخبة- ولاسيما منها الباحثون في مراكز الدراسات- هي جزء أساسي من تركيبة الإعلام بصحفه وقنواته المرئية، ويشغل قطاع كبير من النخبة مواقع مهمة في الصحف، ويشكلون مصدراً لاستطلاع الآراء والتحليلات للأحداث السياسية، التي تهم الرأي العام، كما تستعين بهم القنوات التلفزيونية في برامج الحوارات.. ولهذا اعتبرت النخبة أن هجوم ترامب على الإعلام يمسها بصورة مباشرة، وبدت كأنها تدافع عن نفسها.

وكما يقول ريتشارد كيرنس الذي عمل لأكثر من ثلاثين عاماً في وزارة الخارجية الأمريكية وفي وكالة الإعلام الأمريكية في كتابه بعنوان (صورة متغيرة): (إن الإعلام المقروء لا يزال المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة لقادة الولايات المتحدة، وللذين يصنعون توجهات الرأي العام، وإن الحكومة الأمريكية كانت دائماً قادرة على حشد التأييد في المقالات الافتتاحية لمواقفها من مختلف القضايا.. كما أن الصحافة الأمريكية كانت عبر تاريخها مرآة تعكس المجتمع في أمريكا، ثم دخل التلفزيون ليصبح الوسيلة الأولى والأكثر تأثيراً في تشكل الرأي العام تجاه القضايا الخارجية. ففي داخل التلفزيون توجد غرفة مراقبة، أي أن السياسة موجودة في الإعلام وليست غائبة عنه.. ولهذا لوحظ أن الصحف الكبرى عادة ما تتخذ مواقف تجاه دول، لا تريد الحكومة أن تظهر بأنها هي صاحبة هذه (المواقف).

حتى أن التوجهات السياسية تتحكم لا بالإعلام فقط، بل يمتد تأثيرها ليشمل مؤسسات المجتمع المدني، وأبرزها منظمة هيومان رايتس ووتش، التي تعكس بشكل واضح وكبير مواقف للإدارة الأمريكية، لا تريد أن تنسبها لنفسها، وهذا ما كشفت عنه دراسة للكاتب غاري ليش، نشرتها مطبوعة (كاونتر بانش) بعنوان (تحيز هيومان رايتس ووتش)، قال فيها: (إن تقارير هذه المنظمة خلال سنوات طويلة أظهرت بصورة واضحة تحيزاً تجاه بعض الدول من خلال نشر أكاذيب ضد دول أجنبية معينة، لقاء تقاضي أموال كبيرة عن ذلك النشر (رشا).. وقد حدث في فترة من الفترات أن نائب رئيس هذه المنظمة نُقل منها للعمل في وزارة الخارجية، بمعنى أنه لا انفصال بين الدولة ومثل هذه المنظمات التي تدّعي الاستقلالية.. وما تنشره هذه المنظمة عن الحرب على سورية أكبر شاهد على تحيزها إلى جانب رعاة الإرهاب وداعميه في السعودية وقطر وغيرهما.

علاوة على ذلك أثير مثل هذا الموضوع في صحف كبرى، وفي جلسات الكونغرس، من ناحية أن بعض منظمات المجتمع المدني تتلقى أموالاً ليس من الداخل الأمريكي، بل من الخارج أيضاً، مقابل رفع تقارير مسيسة وغير موضوعية ونشرها، ومن دون التزام الحيادية في عملها.

إن هذه النظرة للإعلام الأمريكي تجاه تغطيته لقضايا تخص دولاً أجنبية، لم تكن مطروحة على هذا النحو من الاهتمام سوى في نطاق محدود، إلا بعد أن كشف الرئيس ترامب نفسه عن هذه المواقف المتحيزة والبعيدة عن الموضوعية للإعلام الأمريكي.

العدد 1105 - 01/5/2024