نهوضٌ من بين الركام!

قضية فلسطين هي قضية شعبٍ يأبى الخضوع، وقصة ظلمِه وتشرّدِه، هي قصةُ جرحٍ نازفٍ في الوجدان والذاكرة الإنسانية، هي قضية حقّ لن يموت أبداً، ففلسطين تسكن في قلوبِ جميع الأحرار، وتهوي إلى قدسِها أفئدة كل المسيحيين والمسلمين، على الرغم من كل الإسفاف الذي يحيط بها.

ففي هذا الزمن الخؤون والظرف الكؤود، وجد الشعب الفلسطيني أن عدوه يقتل ويبطش ويغدر ويغتصب ولا يقيم وزناً لأي معايير أخلاقية أو إنسانية أو قانونية، قياداته منقسمة متألبة بعضها على البعض الآخر، عملية سلامٍ بين مدِّ المزاج الإسرائيلي وجزره، أنظمة عربية رجعية تآمرت على قضيته وتاجرت بدمائه، مع هَنٍ وهَنٍ*.

ففيما يتعلق بعملية السلام، فقد صيّرتها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في حوزةٍ خشناءَ، فالمضي فيها هو مزيدٌ من الاقتحام في ولجات الذل، والتوقف عنها هو استحكامٌ للطمع الصهيوني بالشعب الفلسطيني ومقدراته، إذ لم تقدم هذه المحادثات، التي انطلقت منذ أكثر من ربع قرن، شيئاً للفلسطينيين والعرب، فالأراضي العربية ما زالت محتلة، والدولة الفلسطينية الموعودة لم تقم بعد، والانتهاكات مستمرة لكل المقدسات في هذه الأرض.

مخطئٌ كلُّ من يعتقد أن إسرائيل تريد السلام، فكيانهم العاهر هو مشروعٌ وظيفيٌ استثماريٌ، مهمته الحفاظ على التوتر في المنطقة، وحاجتهم إلى السلام لا تنبع من الإيمان بأهميته في حياة الشعوب والدول، بل هي حاجةٌ مؤقتةٌ، ترتسم خطوطها وفق مصالحهم الجيوسياسية.

لذلك نجد أن إسرائيل طوال العقود الماضية، استثمرت عملية السلام لتلميع صورتها أمام دول العالم، بأنّها الدولة الديمقراطية الحرة، الساعية للسلام بين مجموعة من الدول التي تريد الاعتداء عليها، وبأن حركات المقاومة في المنطقة ما هي سوى حركات إرهابية.

يدرك الصهاينة جيداً أنّ هذه الأرض ليست أرضهم، ولا سبيل لتوحيد صفِّهم وجمع شملِهم سوى استثارة مشاعر الحقد على العرب والفلسطينيين، بتصويرهم بأنهم الوحش الذي يريد الانقضاض عليهم، لذلك يجهدون في قلب الصورة، في مختلف وسائل الإعلام العالمية، بتحويل الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد.

إضافةً إلى ما سبق، يستمر الكيان الصهيوني في مخططاته الاستيطانية التي تقضم أراضي الفلسطينيين، وتقضم معها حقهم في تقرير المصير، فلقد أحدثت البؤر الاستيطانية تغييرات كبيرة في خارطة الضفة الغربية، تتعثر في ظلها إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى الرغم من أن الاستيطان هو انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي، الذي يحظر على الدولة المحتلة إجراء تغييرات في المناطق الخاضعة لها، إلا أننا لا نسمع، من دول العالم ومنظماته الدولية والإقليمية، سوى عبارات باردة من الاستنكار والإدانة، ومواقف سياسية باهتة لا قيمة ولا وزن لها.

 أما دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، في الغرب، فقد خلعوا أقنعتهم وبانت عوراتهم، فحرصهم على الشرعية يتناسب مع مصالحهم السياسية. فعلى الرغم من قرار مجلس الأمن رقم 271 لعام 1969، الذي أكّد أهمية المسجد الأقصى في الثقافة والتراث الإنسانيين، وأن تدنيسه أو تدميره يعتبر تهديداً للأمن والسلم الدوليين، إلا أن ألسنة هؤلاء قد لُجِمت، وحماستهم المعهودة في تطبيق هذه القرارات قد فَتُرت.

أما أنظمة، ما يسمى بالاعتدال العربي، فلقد استطاع الكيان الصهيوني أن يحزَّ حلوقَهم ويدقَّ مناخرَهم، فباتوا يزحفون بين نثيلهم ومعتلفهم** إلى التطبيع معه، سلسين في الانقياد وراء مخططاته، أذلاء حتى في مصافحته.

ولم يكن هذا الكيان الحاقد ليمعن في بغيه ويتمادى في ظلمه، لولا وجود مثل هذه الأنظمة العميلة، التي حاولت إدخال الحق في الباطل، فوصلت الوقاحة بها إلى (إعادة صياغة القضية) ليصبح العدو هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليس الكيان الصهيوني، في مشهدٍ عجيبٍ يعيد إلى الأذهان أحقاد الجاهلية وجموح الحقد والعصبية.

فلم تخجل هذه الدول، بقيادة السعودية، من إطلاق مشروعها البغيض تحت مسمّى (الناتو العربي)، في مواجهة إيران، التي وقفت دائماً مع جميع مشاريع المقاومة ضد الكيان الصهيوني.

وبالنظر إلى القيادات الفلسطينية، فإن حال تشرذمها وتشتت رأيها أعجب من العجب، فبالرغم من أن القوانين والأعراف الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي تضمن للشعب الفلسطيني حقه في مقاومة المحتل، والدفاع عن أرضه ومقدساته وخاصة المسجد الأقصى، إلا أنّ بعضها انبرى للاستنكار والاعتذار أمام هذا العدو الغاصب.

ولكن، هيهات هيهات من خداع الشعوب والمقامرة بحقوقها، فالشيء لا يُعرَف إلا بذاته، وليس بشيء آخرَ غيره، والواقع هو الواقع، ولا يمكن استبداله بأي صورةٍ أخرى، مهما بلغت براعة الرّسامين، وهذه حقائقٌ راسخةٌ، يُصرّ المتآمرون على القضية الفلسطينية على تجاهلها.

ورغم مرارة الظروف وعمق الجراح وشدة الآلام، ينتفض الشعب الفلسطيني العظيم من جديد، في جمعة الغضب للأقصى، برجاله ونسائه، بشيبه وشبابه وأطفاله، في كل مناطق فلسطين المحتلة، حتى في أراضي 1948، رفضاً لتدنيس مقدساته، مواجهاً آلة القتل الصهيونية بصدور عارية، في حالة من الصمود الأسطوري قل نظيرها.

ولقد شكلت هذه الانتفاضة صدمة غير متوقعة، أدخلت الكيان الصهيوني في حالة من الإرباك على المستويين الأمني والسياسي، وأجبرت الشرطة الإسرائيلية على إزالة البوابات الإلكترونية، المنصوبة عند بوابات المسجد الأقصى، بهدف امتصاص الغضب الجماهيري الكبير.

ودعماً للشعب الفلسطيني المظلوم ورفضاً للانتهاكات الصهيونية في المسجد الأقصى، خرجت العديد من المظاهرات في مختلف مدن العالم، في مشهدٍ يؤكد وحدة المشاعر الإنسانية، الرافضة للظلم والاضطهاد، فقضية الشعب الفلسطيني هي قضية إنسانية، تتلاحم حولها عواطف الناس في كل مكان.

وتبرز أهمية هذا الانتفاضة الشعبية الشجاعة في تصحيح المسار، فلقد جاءت في الزمان المناسب، إذ يحاول فرسان الجاهلية، في دول الاعتدال العربي، تسوية هذه المظلمة التاريخية الكبرى، على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني البطل.

وختاماً، لم يتعلم الصهاينة والأمريكيون والرجعيون العرب معهم من التاريخ شيئاً، بل هم لا يريدون فعل ذلك، فهم لم يقرؤوا، على ما يبدو، عن هزائم الطغاة وأنصارهم، وعن تضامن الشعوب مع المظلومين والمضطهدين.

يعتقدون بأن اتفاقاتهم ومعاهداتهم وصفقاتهم ستؤدي إلى خلق واقع جديد، يقود إلى تناسي جرائم الاحتلال الصهيوني والحقوق الفلسطينية التاريخية.

لذلك جاءت هذه الانتفاضة الرائعة رداً حاسماً على بيان الرياض وغيره، وامتدت إلى كل مدن العالم الحر، لتؤكد أن لهيب هذا الحماس الشعبي العارم سيحرق كل من تسوّل له نفسه العبث بحقوق الشعب الفلسطيني المظلوم. 

هوامش

*هَنٍ وهَنٍ: أغراض أخرى أسوأ، مكروهة الذكر.

**النثيل: الروث وقاذورات الدواب، والمعتلف: موضع العلف.

العدد 1104 - 24/4/2024