وأثمرت الحكمة الروسية تركياً!

تبدو موسكو، من جديد، وكأنها القابض على لوحة التحكم الرئيسية في جميع قضايا الشرق الأوسط، فهي تراقب كل كبيرة وصغيرة، وتضغط على المفتاح المناسب وفق مقتضيات الوضع الراهن، الذي يتغير بين لحظة وأخرى، في منطقة شديدة التعقيد، تحولت إلى بؤرة تتقاطع فيها مصالح معظم اللاعبين الدوليين.

 وعلى هذه الخلفية، يمكننا تناول زيارة الرئيس بوتين إلى تركيا، الأسبوع الماضي؛ فبالرغم من أنها جاءت بدعوة من الجانب التركي، إلا أن الروس يدركون جيداً أهمية التعاون مع الأتراك في القضايا الإقليمية والدولية المختلفة.

أشرنا، في مناسبات مختلفة، إلى ما يمكن تسميته (الصحوة التركية المتأخرة) للمخططات الخطيرة المرسومة للمنطقة، والتي باتت واضحة للجميع، إذ أدرك الأتراك (الكمين الاستراتيجي) الذي نصبته واشنطن لهم، والدور المهين الذي أريد لهم أن يلعبوه، بالرغم من العضوية (الشكلية) لتركيا في حلف الناتو.

كما يبدو لنا أن موسكو كانت مدركة لجميع أبعاد الصراع وأهدافه في المنطقة، لذلك تعاملت دائماً بصبر وحكمة مع تركيا، وخير دليل على ذلك هو اضطرار تركيا إلى اللجوء إلى موسكو للمساهمة في حل قضاياها الإقليمية.

سنحاول قدر الإمكان الابتعاد عن التحليلات القاصرة أحادية البعد، والتي تحاول اختزال القضية بالجواب عن سؤال مُبسَّط، من قبيل: أيُّ الطرفين بحاجة إلى الآخر، روسيا أم تركيا؟ لذلك فإننا سنتناول الموضوع من عدة جوانب؛ جانب الأزمة السورية، وجانب المسألة الكردية، وجانب العلاقات الروسية مع دول منطقة الشرق الأوسط والغرب.

ففي الأزمة السورية، أكد الرئيس فلاديمير بوتين أن (الشروط اللازمة لإنهاء الحرب في سورية أصبحت متوفرة)، لذلك فإنه من الواضح أن الجانب التركي سيساهم مساهمة فاعلة في تسريع تطبيق اتفاق خفض التصعيد في محافظة إدلب، وذلك بالقضاء النهائي على المجموعات الإرهابية فيها والعودة التدريجية لدورة الحياة الطبيعية والآمنة للسكان.

أما في ملف العلاقات الروسية- الإسلامية والعربية، فإن وجود تركيا إلى جانب روسيا وإيران في تحالف سياسي ما، وبغض النظر عن هويته، سيساهم مساهمة كبيرة في تخفيف الاحتقان المذهبي الذي نشأ على خلفية الأزمة السورية، والذي أججته العديد من وسائل الإعلام المأجورة، خاصةً في ظل التجييش الكبير الذي تمارسه واشنطن ضد إيران، بذريعة محاربة ما يسمى (المشروع الإيراني في المنطقة). لذلك، فإننا نعتقد بأن تركيا ستلعب دوراً إيجابياً، عند الدول العربية التي انضوت تحت ما يسمى بـ (الناتو العربي) بهدف إبعاد شبح الحرب، التي تحاول واشنطن إشعالها بين إيران والدول العربية، وهذا ما سينعكس إيجاباً على كامل محور المقاومة أيضاً.

في الواقع، يعتبر الكثير من المراقبين أن موقف موسكو لا يزال غامضاً تجاه المسألة الكردية، إلا أن هذا الكلام لا يتطابق مع الواقع، فلقد أكدت غير مرة احترام سيادة دول المنطقة ووحدة أراضيها، وهي بموقفها هذا تنطلق من ضرورة احترام ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية. لذلك فإن روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، ستكون عاملاً مهماً في توحيد وتنسيق الجهود بين جميع الأطراف المعنية، مما سيؤدي إلى الحيلولة دون انزلاق المنطقة إلى صراع جديد مع الأكراد.

أما في ملفنا الأخير، المرتبط بالعلاقات الروسية- الغربية، فلم يعد يخفى على أحد النشاط السياسي والعسكري الكثيف الذي تمارسه الولايات المتحدة في دول شرق أوربا، وهذا النشاط كله، في الحقيقة، موجه ضد روسيا، لذلك فإن التوجه التركي باتجاه روسيا، وتزايد التعاون العسكري بين البلدين سيشكل عنصراً ضاغطاً إضافياً على الغرب، في مواجهة ذلك النشاط الأمريكي، كما أنه سيحول دون تمدد حلف الناتو باتجاه الشرق، الأمر الذي يُعتبر تهديداً للأمن القومي الروسي والصين.

في الحقيقة، على الرغم من كون الأزمة السورية هي السبب الرئيسي لدخول موسكو في ملفات الشرق الأوسط، إلا أن نهاية هذه الأزمة لا يعني على الإطلاق انتفاء الحاجة إلى الدور الروسي الفاعل والمثمر، خاصةً أن المنطقة مقبلة على مشاريع تقسيمية خطيرة، لذلك فإنّ جميع خطوات التنسيق والتعاون بين دول المنطقة وموسكو تصب في الاتجاه الصحيح، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيدٍ من الاستقرار والأمن.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن موسكو أحسنت، طوال الأعوام الماضية، إدارة الصراع في المنطقة، سياسياً وعسكرياً، فهي لم تلجأ إلى سياسة العبث في ملفاتها وتركها للمجهول، كما فعلت وتفعل الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعكس عمق القراءة الروسية للأحداث الجارية وينمُّ عن حكمة سياسية بالغة، تسعى إلى إنهاء الصراعات والحروب وتعزيز فرص السلام.

العدد 1104 - 24/4/2024