أرغوا وأزبدوا … لكنهم لن ينجحوا!

بدأت الجوقة السياسية الأمريكية بعزف لحنها الشيطاني الشاذ حول الملف النووي الإيراني، وفي الطرف الآخر من العالم وعلى مقربة من إيران، بدأت دول الناتو العربي وإسرائيل بالتصفيق والتشجيع، في مشهدٍ مؤلمٍ لمشاعر شعوب المنطقة قاطبةً، لأن أنظمتها لم تتحلَّ بالحد الأدنى من الحكمة والحنكة السياسية.

لن نتوقف طويلاً، في تحليلنا، عند (عرب الناتو) واستزلامهم للأمريكي، فهؤلاء لا عزَّ لمن استنصرهم، ولا كرامة ولا رفعة لمن استعان بهم أو لجأ إليهم، صوتهم في الحق خفيٌّ، وقرنهم في الباطل بارزٌ، سعوا في قضايا بان كذبها في أكثر من مكان، فجلبوا العار لأنفسهم، والويل والخراب لدول المنطقة، إلا أن العجب كل العجب في استماتتهم على تخريب إيران، وهم أجبن من أن يفتحوا أفواههم إذا تعلق الأمر بالكيان الصهيوني.

في الواقع، عبارة ترامب (إن واشنطن لا تستطيع تأكيد التزام إيران بالاتفاق النووي) تعيد إلى الذاكرة كلمات مندوبي الدول الغربية في مجلس الأمن الدولي، أثناء المناقشات التي جرت قبل الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، حول ملف أسلحة الدمار الشامل، إذ ما انفك أولئك المندوبون يكررون عبارة (على العراق أن يثبت عدم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل) في كل جلسة مناقشة، وهذا يعكس، في الواقع، استخفافاً، لا بعقول الناس فحسب، بل بعقول جميع منظري القانون وواضعي أسسه المنطقية، وسأتوقف عند هذه النقطة قليلاً!

يمكننا تسمية الواقعة القانونية، سواء في حالة العراق سابقاً أو في حالة إيران حالياً، أي (عدم الالتزام بالاتفاق النووي) أو (عدم امتلاك أسلحة الدمار الشامل)، اختصاراً بواقعة (إخفاء سرٍ في موضوع معين)، تجعل من إيران أو العراق موضع اتهامٍ بـ(عدم الالتزام) أو (الامتلاك).

في الحقيقة، تطرح هذه الواقعة القانونية منهجيةً واضحةً للبحث والتحقيق، فالتهمة هي (إخفاء سر)، وبالتالي فمهما قدم المتهم من حججٍ وبراهين على (عدم إخفائه لسرٍّ ما)، فإن المُدّعي يمكنه أن يقول بأنها غير كافية، وهذا ما سيؤدي إلى الدخول في حلقة مفرغة لا نهائية ولا يمكن الخروج منها. وللخروج من هذه الحلقة المفرغة، فإن على المُدّعي تقديم آلية للتأكد من (عدم إخفاء السر)، أو آلية للتحقيق، وتصمّم هذه الآلية وفق معاييرٍ، يجري الاتفاق عليها من قبل جميع المعنيين.

على هذه الخلفية، شُكِّلت، سابقاً، في حالة العراق، لجان التحقيق الدولية من قبل مجلس الأمن. وعلى الرغم من عدم تقديمها أدلة دامغة على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، إلا أن الولايات المتحدة غزت هذا البلد، الأمر الذي أدّى إلى قتل وتشريد الملايين، وتأكد فيما بعد أن أسلحة الدمار الشامل هي تهمة لا أساس لها على الإطلاق.

أما في الحالة الإيرانية الآن، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقدم آلياتٍ محددة للتفتيش والتحقيق، وهذه الوكالة هي منظمة غير حكومية ومستقلة، تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، ولقد أكّد مديرها العام، يوكيا أمانو، أن إيران ملتزمة بالاتفاق النووي وتخضع لنظام تفتيش شديد.

تؤكد الوقائع السابقة، وغيرها كثير لا يتسع المقام لشرحها، أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لخرق جميع القوانين والأعراف الدولية، إذا رأت مصلحةً لها في ذلك، وهي لا تفهم غير لغة القوة. بالمقابل فإن إيران لديها ما يكفي من (القوة) و (أوراق القوة) لمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فإن السؤال حول الغايات الحقيقية للسلوك الأمريكي يطرح على طاولة البحث، وهذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفقرات التالية!

في الواقع، لا يمكن عزل الملف النووي الإيراني عن باقي ملفات المنطقة، خاصةً الملف السوري والقضية الفلسطينية والملفين اليمني والكردي، والحضور الإيراني بارزٌ ومؤثرٌ. كما أن إيران في حالة صدام مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، في هذه الملفات جميعها!

بعد توقيع الاتفاق النووي، بدأت عجلة الاقتصاد الإيراني تدور بسرعة أكبر، وهذا ما سينعكس إيجاباً على مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي سيؤدي إلى تعزيز مكانة إيران وقوتها ونفوذها في المنطقة، خاصةً بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها محور المقاومة على الأراضي السورية واللبنانية والعراقية، الأمر الذي جعله يبرز كقوة هامة قادرة على التأثير في سيرورة الأحداث.

إضافةً إلى ما سبق، يوجد، في جميع الملفات آنفة الذكر، استحقاقاتٌ والتزاماتٌ يجب أن تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل، فالجولان العربي السوري والأراضي الفلسطينية ما زالت محتلة من قبل إسرائيل، وستشكل قوة محور المقاومة عاملاً إضافياً في تعزيز الموقف السوري والفلسطيني الساعي إلى استرجاع الأراضي المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة واستعادة كافة الحقوق الفلسطينية.

أما في الملف الكردي، فإن قسماً من الشعب الكردي يعيش في إيران، وبالتالي فإن أمنها مهدد بالمخططات التقسيمية الأمريكية للمنطقة، لذلك فإن قوة إيران واستقرارها سيكون عاملاً داعماً لمواقف الدول المجاورة الرافضة للتقسيم.

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية خلط الأوراق في المنطقة بهدف إضعاف إيران، إلا أنه لا مندوحة من الإشارة، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، إذ سيؤدي ذلك إلى انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية طاحنة، وستكون المصالح الأمريكية والغربية هي المتضرر الأكبر بنتيجتها، كما أن أمن الكيان الصهيوني سيصبح في مهب الريح.

علاوة على ذلك، فإن إيران ليست دولة معزولة، بل ترتبط بعلاقات صداقة جيدة ومتينة مع العديد من دول العالم، خاصةً دول مجموعة البريكس، ولن تقبل هذه الدول المساس بأمن إيران. هذا إضافةً إلى الموقف الأوربي الداعم للاتفاق النووي.

ولقد انتقلت إيران من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، إذا أكّد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في تصريحٍ، نقلته مؤسسة ر ب ك الروسية، أنه من الممكن أن تخرج إيران من الاتفاق النووي إذا أقرت الولايات المتحدة الأمريكية عقوباتٍ ضدها.

من هنا، يسود الاعتقاد بأن هذا الصراخ الأمريكي هو مجرد ابتزاز لإيران وإرضاء لدول الناتو العربي ولإسرائيل، وهذا دليل جديد على إفلاس السياسات الأمريكية في المنطقة. فلقد تحولت الولايات المتحدة الأمريكية من لاعبٍ أساسي ومؤثر إلى مهرِّج، وذلك بسبب سلوكها الأخرق وخضوع الإدارة الأمريكية للإملاءات الإسرائيلية والعربية الرجعية، لذلك فإن درجة الحرارة السياسية للرئيس الأمريكي ستبرد، كما حصل في الأزمة الكورية الشمالية، رغم كل إرغائه وإزباده، فنحن نعيش في عصر جديد، عصر العولمة وعصر الشركات متعددة الجنسيات، وبدأت مفاهيم السيطرة والهيمنة والابتزاز بالانقراض.

العدد 1104 - 24/4/2024