كي لا ننسى..سليم يوسف قندلفت..المناضل الشيوعي المنسي

 في دمشق، وفي حي القصاع الذي يمتلك تاريخاً وطنياً عريقاً، وإرثاً نضالياً دخل عميقاً في التراث التقدمي للشعب السوري، ولد طفل في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، في عائلة ثرية محافظة تعمل في التجارة، إلا أن هذه الثروة كانت سبباً في مقتل رب العائلة على يد الدكتاتور أديب الشيشكلي.

في هذا البيت المحافظ نشأ وتربى هذا الطفل الذي سيصبح فيما بعد مناضلاً تنويرياً من مناضلي الحركة الديمقراطية والشيوعية، وكان والده يرغب بأن يصبح ابنه كاهناً مثقفاً، ولذلك أرسله إلى أحد الأديرة الكاثوليكية لدراسة اللاهوت، حيث تعلم ودرس اللغة الفرنسية وتعمق بها.. بيد أن مصير هذا الطفل قد تحول عن اللاهوت، بسبب اطلاعه على الصحف والمجلات الفرنسية، وخصوصاً على صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي التي كانت تصل إلى البلاد، وأخذ تدريجياً يتعرف على الفكر التقدمي والماركسي، ووجد نفسه يقترب أكثر فأكثر من الأفكار الشيوعية، وينخرط في صفوف الحزب الشيوعي السوري، وقد أعطاه منذ ذلك الوقت كل جهده وعصارة فكره الملتهب.

في عام 1949 ينتسب إلى هذا الحزب، بدوافع وعيه لمشاكل المجتمع وثقافته المتنوعة والتنويرية وإنسانيته العميقة. يقول فيما بعد في عام 1953: (إنني ماركسي وأؤمن بالنظرية الماركسية اللينينية، لأنها نظرية علمية تتناول جميع جوانب الحياة فكرياً واقتصادياً واجتماعياً، وعلى هذا الأساس انتسبت للحزب الشيوعي السوري). لقد وضع هذا الإنسان المرهف والمناضل الشجاع كل إمكاناته في خدمة المهمات النضالية الطبقية والوطنية للحزب، لم يكن يعمل من أجل مجده الشخصي، ولم يسع ليتبوأ مناصب قيادية، ظلّ متواضعاً، يتحسس بعمق معاناة الناس والرفاق.. ولم يكن هذا التحسس مقتصراً على المشاعر، ولكنه امتُحن في العديد من المرات من خلال تقديم المساعدات حسب استطاعته لمن يحتاجها من الرفاق، وقد وضع منزله في خدمة الرفاق والحزب والمهام النضالية التي تنتصب أمامه، بيد أن مأثرته الأساسية قد تجلت في سعيه الحثيث لنقل التراث التقدمي للأجيال الجديدة، من خلال ترجماته وكتبه ومقالاته التنويرية التي نشرت في الصحافة السورية والعربية.

ارتبطت معه بصداقة عميقة، وكنا نلتقي دائماً، كان يتحدث عن التاريخ، وعن تجربة الحزب، وعن العواصف التي ألمت به.. كان حزيناً على ما أصابه من انشقاق وتفتت، وكان يرى أن الانقسام لا يملك أساساً موضوعياً، إذ كان يمكن أن يبقى الحزب موحداً، لو توفرت الشروط الذاتية الحريصة على الوحدة..

لقد كان حزنه العميق من تراجع هذا الدور في البلاد يعود إلى حرصه الشديد على الحزب الذي أعطاه كل ما يملك في هذه الحياة.. ولقد كانت فاجعته بابنه الوحيد والموهوب، الذي فقده نتيجة حادث طائش، كارثة إنسانية بالنسبة له، عمقت من حزنه وألمه الشديدين.. ورغم ذلك فقد بقي هذا الإنسان النقي والشيوعي المؤمن بقيمه ومبادئه الإنسانية مخلصاً لها حتى النهاية.

في أواخر العقد الأول من القرن الجديد، يفارق الحياة هذا المناضل التنويري والشجاع، الذي قدم الكثير للوطن والحزب، وإن تراثه سيبقى جزءاً لا يتجزأ من التراث التقدمي للشعب السوري، الذي يجب أن يبقى حياً للأجيال القادمة، والذي يجب أن لا ينسى.

العدد 1105 - 01/5/2024