من زرع الفجور.. لن يحصد إلا الثبور!

تجبّرٌ لا حدود له، وطغيٌ لم يسجّل التاريخ مثله، ووقاحةٌ لا نظير لها، تمثّلت جميعها بإطلاق الرئيس الأمريكي لوعده المشؤوم؛ لم يراعِ حرمة الأديان السماوية، ولم يحترم مشاعر أحدٍ في العالم، ولم يُقم وزناً لعرفٍ سياسيٍ أو قانون دولي.

لم تُخبّئ الولايات المتحدة الأمريكية وجهها الخبيث يوماً، فسلوكها المنحاز للكيان الصهيوني كان واضحاً دائماً، ومع هذا ما يزال بعض العرب يلهث وراءها ويخطب ودَّ ربيبتها (إسرائيل). لذلك لم يكن الرئيس الأمريكي ليتجرأ على هذا الإعلان الخطير، لولا علمه المسبق بأن (المعتدلين العرب) سيعملون تراجمةً على لسانه، وجنداً يصول بهم ضد الفلسطينيين، أصحاب الحق في هذه الأرض. فلقد دخل عرب الاعتدال حنادس الجهالة، ومهاوي الضلالة، نفضوا أيديهم من قضية فلسطين، وثلموا الميثاق المعقود على صونها، أعدّوا لتمويه الحق الفلسطيني بباطلهم؛ فدأبوا، منذ انهزام جماعاتهم الإرهابية التكفيرية في سورية والعراق ولبنان، على التحريض ضد إيران، لحرف أنظار الناس عن خيانتهم الموصوفة وصفقتهم المشؤومة.

وعلى الرغم من كل هذا البغي، ما زالت القدس حية في أفئدة الناس جميعاً، فلقد خرجت المظاهرات المنددة المستنكرة للقرار الأمريكي في معظم مدن العالم، مؤكدةً أن القضية الفلسطينية هي قضية إنسانية، ولا يمكن للنعيق الأمريكي أو الصهيوني أن يُغيّبها من أذهان الناس وقلوبهم. لذلك، ومن جديد، تؤكد موجة الغضب للقدس وحدة المشاعر الإنسانية، وأن الظلم والتعسف والطغيان لا يمكن أن تدوم مهما طال الزمن.

في خضم موجة الغضب والاستنكار، وبعيداً عن لغة العواطف، لا بد من وقفة تأمل وتفكير بغية إضاءة القضية بشكل جيد وفهم التكنولوجيات والآليات الأمريكية التي تضمن لها استمرارية التحكم والسيطرة، لذلك لا مندوحة من الإجابة عن بعض الأسئلة البسيطة والجوهرية:

-ما هي الدلالات السياسية لهذا الموقف الأمريكي الخطير؟

-لماذا تُقدِم الولايات المتحدة على هذا الإعلان متحديةً العالم بأسره؟

-ما هي النتائج المتوقعة لمثل هذا القرار؟

 أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أن الآليات السياسية الأمريكية تقوم بشكل أساسي على إدارة الصراعات والأزمات، التي توفر لها غطاءً جيداً لتمرير مشاريعها، لذلك تحرص دائماً على تحويل الصراعات إلى أطوار ومراحل جديدة بغية تأمين الاستمرارية اللازمة لها. ولإحداث هذا التحول تستغل الولايات المتحدة الأحداث الجارية، وتنتخب حدثاً معيناً، محاولةً إجراء ترويج إعلامي كثيف له، بغية تحضير الجمهور نفسياً للأطوار القادمة. إلا أنه، في هذه المرة، لم تستغل الولايات المتحدة الأحداث الجارية في المنطقة، بل قامت نفسها، خلافاً لكل المرات السابقة، بـ(خلق الحدث)، بإعلان ترامب المشؤوم، الذي يمثل (قنبلة نووية سياسية)، لذلك فإنه لا يمكننا النظر إلى هذا الحدث على أنه نقل للصراع إلى طور جديد، بل هو نوعٌ من (الهروب) من حلبة الصراع الشرق-أوسطية بشكل كامل! ولهذا الأمر عدة دلالات ومقدمات، أهمها:

-العجز الكامل للولايات المتحدة عن تحقيق أي نصر في المنطقة العربية؛ إذ خسرت جميع أوراق القوة، كما أنها خسرت مصداقيتها حتى أمام أقرب حلفائها، وهي تركيا؛

-فشل دول محور (الاعتدال العربي) في التحريض ضد إيران، وبالتالي استجرارها إلى مواجهة مفتوحة، على أرض اليمن، على خلفية مذهبية، الأمر الذي كان يمكن أن يوفر أرضية ملائمة لاستمرار الصراع؛

-انتهاء (الصلاحية السياسية) لورقة الإرهاب، التي دأبت الولايات المتحدة على التلويح بها منذ عام ،2001 أمام ضربات الأبطال في حلف الصادقين، سوريا وروسيا وإيران والعراق والقوى الحليفة؛

-الفشل في خلق تيار كبير معادٍ لمحور المقاومة في المنطقة، وخاصة بعد إقدام الجامعة العربية على إصدار بيان يصف المقاومة اللبنانية بالإرهابية، تحت ضغط السعودية والبحرين.

 في الواقع، يشكل القرار الأمريكي خرقاً صارخاً للقانون الدولي، وتحدياً واضحاً لكل دول العالم بما في ذلك الحلفاء الأوربيين، وهذا يعكس عمق الأزمات السياسية الأمريكية، وعجز الآليات القائمة على (تصدير الأزمات) إلى الخارج، وتحديداً الشرق الأوسط، عن حلها.

وعلى هذه الخلفية، يبدو لنا أن الشعور الأمريكي بانتهاء الدور الوظيفي للكيان الصهيوني يتزايد، ويتزايد معه العجز الأمريكي أيضاً، خاصة بعد ظهور قوى دولية وإقليمية كبيرة ومؤثرة، كروسيا وإيران، كما أن الولايات المتحدة منشغلة بأزماتٍ أكثر تعقيداً، في شبه الجزيرة الكورية وأوربا الشرقية وإفريقيا مثلاً، وهذا الكيان غير قادر على توفير (عنصر المناورة) اللازمة في تلك المناطق؛ فكأن لسان حال صانع القرار الأمريكي يقول للصهاينة: (سأعطيكم ما تشاؤون قبل رحيلي من هذه المنطقة). ولقد عبّر القادة الصهاينة في أكثر من مناسبة عن حنقهم من الولايات المتحدة الأمريكية لتركها المنطقة لـ (الروس والإيرانيين).

 بناءً على ما سبق، فمن المتوقع، في المرحلة اللاحقة، أن تزداد شعبية محور المقاومة على امتداد الساحتين العربية والإسلامية، خاصةً أن الوقائع والأحداث تؤكد أن هذا الخيار هو الخيار الصحيح لردع الكيان الصهيوني واستعادة الحقوق المغتصبة، وسيكون هذا المحور قادراً على (شرعنة) دوره، استناداً إلى القانون الدولي نفسه، مستغلاً حالة التضامن السياسي والشعبي، العربي والإسلامي العالمي، مع القضية الفلسطينية.

إضافةً إلى ما سبق، فإن أنظمة الاعتدال ستجد نفسها في حالة لا تحسد عليها، أمام الضغط الشعبي والجماهيري الكبير، خاصةً بعد انكشاف خيانتها للقضية المركزية الأولى للأمة العربية والإسلامية، مما يُنبئ بدخول هذه الأنظمة في أزمات سياسية كبيرة.

لقد حاول من يدعون الحرص على حقوق الإنسان والدفاع عن حريته، في الولايات المتحدة الأمريكية، تحويل العالم إلى غابةٍ، تنهش الناسُ بعضَها بعضاً، ويأكل فيها القويُّ الضعيف. فقد لا يدرك الأمريكي أن القوة لا تتمثل فقط بالسلاح، بل إن القوة الحقيقية هي قوة الحق، وأمام هذه القوة سيندحر كل الغزاة الطامعين بأرضنا، وسيسقط معهم كل العملاء والخونة، فمن يزرع الفجور لن يحصد إلا الثبور.

العدد 1104 - 24/4/2024