استراتيجية الهروب إلى الأمام!

أثارت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية والسياسية على مختلف المستويات، منذ الإعلان عنها في 18 كانون الأول 2017، وما زال هذا الجدل مستمراً حتى الآن، وذلك نظراً للتناقضات الكثيرة التي حملتها، الأمر الذي يستدعي التوقف قليلاً عند بعض جوانب هذه الوثيقة.

يطرح الشعار (أمريكا أولاً)، الذي وضعته الإدارة الأمريكية عنواناً لاستراتيجيتها الجديدة، مجموعة من الأسئلة الاستنكارية الهامة، وهي:

-ألا يعني هذا الشعار أن المصالح الأمريكية أهم من مصالح جميع دول العالم؟!

-أليس من حق دول العالم الأخرى، الحلفاء والأعداء على حد سواء، أن ترى فيه استفزازاً لها؟!

-هل على دول العالم التخلي عن مصالحها، لعدم (إزعاج) الولايات المتحدة الأمريكية؟!

في الواقع، لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بمصالح الدول الأخرى على الإطلاق، بل كانت مصالحها في أول سلم أولوياتها، إلا أن التركيز على المصالح الأمريكية بهذه الطريقة الفجة، وجعل عبارة (أمريكا أولاً) شعاراً لاستراتيجيتها يعكس وضعاً داخلياً متأزماً، وعجزاً في خلق حالة من (التوازن المرن) بين الملفات الخارجية والداخلية، وتركيز الوثيقة الآنفة الذكر على المشاكل المحلية، كالهجرة غير الشرعية والبنية التحتية والقاعدة الصناعية وأمن المعلومات وغيرها، يعزز هذه النتيجة.

وهكذا، فإن الولايات المتحدة قد تضطر إلى التفريط بمصالح حلفائها حفاظاً على مصالحها، وبما أن هذه المصالح مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالعلاقة القائمة بين الولايات المتحدة وحلفائها، فستدخل هذه العلاقات في حالة من عدم الاستقرار، وستفقد بنتيجتها الولايات المتحدة تأثيرها في الملفات السياسية الدولية المختلفة، خاصةً في ظل بروز قوى كبرى، كروسيا والصين، قادرة على تقديم مقاربات بديلة، أكثر نجاعة في التعامل مع مثل هذه الملفات، وخير مثال على ذلك هو الملف النووي الإيراني، والأزمة السورية.

اعتبرت الوثيقة أيضاً أن (الصين وروسيا تتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأمريكية، وتحاولان تدمير الأمن والرخاء الأمريكي. وهما مصممتان على جعل الاقتصادات أقل حرية وأقل عدالة، وتنميان قدراتهما العسكرية، وتتحكمان بالمعلومات والمعطيات لقمع مجتمعاتهما وتوسيع نفوذهما. في الوقت نفسه، فإن جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية والجمهورية الإسلامية الإيرانية مصممتان على زعزعة استقرار المنطقة، وتهديد الأمريكيين وحلفائهم والاعتداء على شعوبهما. تحاول أيضاً المجموعات العابرة للحدود، كالجهاديين الإرهابيين ومنظمات الجريمة، بشكل حثيث إيذاء الأمريكيين).

من هذا النص نلاحظ تراجع أهمية ورقة الإرهاب، الذي لم يعد يشكل (تهديداً استراتيجياً) لأمريكا، ولقد أشرنا إلى هذا النقطة في مناسبات أخرى، فلقد نجحت الولايات المتحدة في استثمار الجماعات الإرهابية التكفيرية والجهادية طوال العقود الماضية، إلا أن المعالجة الحكيمة للأزمة السورية فضحت الدور الأمريكي، إذ تبين أنها الداعم والممول الرئيسي للجماعات الإرهابية، لذلك فإن هذه الورقة فقدت فعاليتها وتأثيرها على الدول التي تعارض السياسات الأمريكية.

كانت ردة فعل بكين حادة على الوثيقة الأمريكية، ودعت ترامب، على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إلى (التخلي عن عقلية الحرب الباردة)، وإلى (التوقف عن تشويه الأهداف الاستراتيجية الصينية).

أما في موسكو، فلقد انتقد الرئيس بوتين هذه الوثيقة، في اجتماع المجلس الموسع لوزارة الدفاع الروسية، في 22 كانون الأول 2017، قائلاً: (بلغة دبلوماسية، فهي بدون شك تحمل طابعاً هجومياً، وعند الانتقال إلى اللغة العسكرية فإنها تحمل طابعاً عدائياً). كما أشار الرئيس بوتين، ووزير الدفاع شويغو أيضاً، إلى التزايد السريع لنشاط الناتو والولايات المتحدة عند الحدود الغربية لروسيا.

لا شك أن المهمة الأولى للدولة، كما عبّر عن ذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هي حماية مواطنيها وتلبية احتياجاتهم وتعزيز أمنهم والحفاظ على حقوقهم والدفاع عن قيمهم. إلا أن المفارقة الكبرى لا تكمن في تعريف مهمة الدولة، بل في أن ترى الإدارة الأمريكية أن هذه المهمة لا تتحقق إلا باستعداء الدول الأخرى، وإثارة النزاعات والحروب معها. سقط من ذهن ترامب، على ما يبدو، أن هذه المهمة ليست حكراً على الحكومة الأمريكية أمام شعبها، بل إن واجب جميع حكومات العالم تأمين الاستقرار والحماية والرخاء لشعوبها.

يدرك صانعو القرار في الولايات المتحدة جيداً عجزهم عن الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا أو الصين، أو حتى إيران أو كوريا الشمالية، فهم كانوا أعجز وأعجز في مواجهات أخرى، أبسط بكثير؛ فالقوة الحقيقية تكمن بالعقل، وليس بكميات الأسلحة أو الأموال المصروفة على التسليح، كما عبر عن ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لذلك فإننا نرى أن رفع سقف المواجهة، بوصف روسيا والصين كأكبر تحديين، لا يمثل سوى نوع من الهروب إلى الأمام، ناجم عن العجز عن حل المشكلات القائمة أصلاً، ولقد أجاد بعض المحللين بوصف الوثيقة السابقة بأنها (ليست استراتيجية)، فهي بحق تستحق تسمية استراتيجية الهروب إلى الأمام.

العدد 1104 - 24/4/2024