العدوان على عفرين عدوان على كلّ الشعب السوري

شكّلت عملية (غصن الزيتون) التركية ضد عفرين ومنطقة الشمال اعتداء خارجيّاً ومصدراً للحروب والنزاعات الداخليّة السوريّة، كما بين الأطراف والقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري. وتتضاعف المخاطر بسبب تلك العملية على المدنيين بالدرجة الأولى، وهم من يدفعون الثمن لتلك الصراعات المتواصلة.

كان متوقعاً أن يندفع النظام التركي في عدوانه بعد أن تحررت حلب، وحقق الجيش السوري وحلفاؤه بدعم إيراني وروسي إنجازات ضد داعش والنصرة، ما أدى إلى تراجع النفوذ الأمريكي والإسرائيلي والرجعي العربي، وكذلك التركي، على امتداد المناطق السورية، التي شهدت مواجهات عسكرية طاحنة.

لقد فتحت عملية (غصن الزيتون)، الهادفة لاحتلال 22% من الأرض السورية -كورقة أساسية لها في المفاوضات النهائية حول سورية على أقل تقدير- مرحلة جديدة من مراحل الحرب ضد سورية والمنطقة العربية، حيث تتداخل الأهداف السياسية بتلك العسكرية، من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في الشمال السوري.

فإدارة ترامب أعلنت بشكل سافر، واستناداً إلى المشروع المتجدد والمسمى الشرق الأوسط الجديد، عن احتلال الجيش الأمريكي لـ 28 % من الأراضي السورية، وعن خطتها لإقامة قاعدة عسكرية ثابتة في الشمال السوري تمهيداً لتقسيمها إلى كانتونات طائفية وعرقية تدور في فلك الكيان الصهيوني، ولضبط المشروع التركي أو ربطه في إطار (المشروع الأم)،
مشروع الشرق الأوسط الجديد وتحت سقفه، تسهيلاً لتنفيذ صفقة العصر بإنهاء القضية الفلسطينية، وشطب حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس.

وفي هذا الإطار صرّح الرئيس الأمريكي وأكّد المسؤولون في إدارته أن سورية هي ساحة (المواجهة والاحتواء) لإيران، ومن خلفها روسيا، لحماية الكيان الصهيوني، وضرب قوى المقاومة.
أولى الخطوات التنفيذية لتلك الخطّة هي تدريب وتسليح 30 ألف مقاتل كردي وسوري من أبناء العشائر العربية كحرس للحدود و(كجيش وطني) جديد شرق الفرات. وسيضم هذا الجيش بقايا المرتزقة الداعشيين الذين التحقوا بمناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية،
وبحماية مفضوحة من القوات الأمريكية جواً وبراً، كما سيخضع هؤلاء لعملية (إعادة تدوير) تحت إمرة كردية تابعة للجيش الأمريكي في قاعدته المنوي تثبيتها في شمال سورية.

الجدير بالذكر أن هذه القاعدة العسكرية الجديدة ستكمل عدد القواعد الأمريكية الـ 800 المنتشرة في 80 بلداً، والتي تبلغ ميزانيتها 156 بليون دولار سنوياً.

الهدف الثاني للإدارة الأمريكية هو إفشال مؤتمر سوتشي، والمبادرة الروسية حول الحلّ السياسي في سورية، إذ لن ترضى الإدارة الأمريكية أن تنفرد روسيا، ومعها إيران، في توزيع النفوذ ما بعد انتهاء الحرب في سورية.

أما الهدف الثالث للإدارة الأمريكية فيكمن في وقف التقارب التركي مع روسيا وإيران (الناتج عن اتفاقات أستانا)، وإبقاء اسطنبول أداة طيعة للإملاءات الأمريكية وحلف الناتو. فبعد التباعد والتناقض بين حكومة أردوغان والإدارة الأمريكية،
أعطت إدارة ترامب للحكم التركي ضوءاً أخضر للعملية ضد عفرين، ضمن شروط وحدود جغرافية لا تشكل تعقيدات للمخطط الأمريكي مع الأكراد في شمال سورية.

الهدف الرابع للإدارة الأمريكية هو السيطرة الكاملة على الورقة الكردية ومكوناتها السياسية والعسكرية، لحجز مكانٍ بارزٍ على طاولة المفاوضات الآيلة إلى حلّ الأزمة السورية، وتحديد وجهة السياسة السورية في المنطقة، لا سيما حيال القضية الفلسطينية.
فمنذ اندلاع الصراع في سورية عام 2011، شكلت الحكومة التركية، بقيادة أردوغان وحلفائه الداخليين، ذراعاً قوية في الخطة الأمريكية الإسرائيلية والرجعية العربية ضد سورية. ولعبت تركيا الأردوغانية دور المعبر، والمخزن التسليحي، والمسهّل اللوجستي، ومعسكرات التدريب لكل الإرهابيين والتكفيريين الذين استباحوا الأراضي السورية،
وسببوا المجازر الوحشية ضد السوريين من عرقيات مختلفة، ونزوح الملايين من المواطنين السوريّين، ونهب الثروات المادية والطبيعية.

لقد كانت تركيا الشريك الأول لداعش والنصرة وأخواتها في أعمال النهب للنفط وآلات المصانع والمزارع في شمال سورية. وينسجم هذا الدور مع المطامع التاريخية العثمانية التي تضمّنت ضمّ شمال سورية إلى تركيا، ومحاولات تعميم نماذج لواء إسكندرون فيها.
وكشفت عملية (غصن الزيتون) مرّة جديدة أن حكم أردوغان لا يعير أي اعتبار للسيادة السورية، وقد عبّر الرئيس التركي بفجاجة عن ذلك أمام الإعلام الغربي بالقول: (لن نسمح لأحد بنطق كلمة واحدة مهما حصل، ولن نهتم بعد الآن بأي موقف، وفي هذه اللحظة كل اهتمامنا مركّز على عمليتنا على الأرض).

إن الشمال السوري بأكمله محطّ مطامع تركية وأمريكية للسيطرة عليه عسكرياً، ومن ثمّ سياسياً. تركيا ترى في هذه المنطقة خطراً تاريخياً على الجنوب التركي ذي الغالبيّة الكرديّة حيث تتداخل الجغرافيا والديموغرافيا والسياسة الكرديّة على طرفي الحدود.
أما الإدارة الأمريكية فتعتبر الشمال السوري منطقة يمكن من خلال السيطرة عليها، توسيع نفوذها العسكري والسياسي داخل سورية وتجاه العراق وتركيا معاً.
وليس لدى الإدارة الأمريكية أوراق لتلعبها في هذه البقعة سوى استمالة الأكراد السوريين وجعلهم، إن نجحت، أدواتٍ لخلق صراع داخلي جديد على أساس قومي طمعاً بتقسيم البلاد.

إن السلطات التركية تعاني من أزمات سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متواصلة منذ سنوات. ويمارس الحكم الأردوغاني القمع والقهر ضد كل المعارضين داخل تركيا، وفي مقدمهم الأحزاب والقوى ذات الشعبية الواسعة بين الأكراد والاتراك.
وتندرج وظيفة عملية (غصن الزيتون) في بُعدها السياسي التركي الداخلي ضمن التوجه الأردوغاني لإضعاف المعارضة حتى الاستسلام. أما اقتصادياً، فإن السيطرة التركية على منابع النفط والغاز في شمال سورية، إضافة إلى المياه والثروات الطبيعية والزراعية، فتغدو مصدراً خارجياً لمراكمة ثروات ومداخيل تخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية.

وإذا ما نجحت تركيا في عملية عفرين، ومن بعدها في (منبج)، وكرّست من ثمّ احتلالها العسكري التركي في الشمال السوري وإدلب، تصبح السلطة التركية قوّة نافذة في مسار إنتاج الحلّ السياسي للحرب السورية على نحو يلبي مصالحها وطموحاتها. وتتقاطع هذه المطامع التركية مع الأهداف الأمريكية في الشمال السوري، التي بدأت تتجسّد في بناء قواعدها العسكرية.
وقد تتصادم في هذا السياق المصالح والاطماع بين الإدارة الأمريكية وتركيا، كما أنها قد تتلاقى ليتقاسم الطرفان النفوذ السياسي والعسكري في الشمال السوري.

إزاء هذه السياسات العدوانية الأمريكية والتركية معاً ضد سورية، تقوم روسيا باعتماد نهجين متوازيين. فهي من جهة تعلن موقفها المتمسك بوحدة الأراضي السورية، إضافة إلى إعادة تعزيز وجودها العسكري والسياسي في سورية، وعبرها في منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق تتواصل مبادرات روسيا لتأمين مسار الحل السياسي عبر الحوار بين معظم المكوّنات السورية، أي الحكومة والعديد من المعارضات السورية، ويأتي مؤتمر (سوتشي) الحالي تجسيداً لهذا الدور، رغم ما يشوبه من غياب لأطياف سياسية معارضة.
ولا تتردد الحكومة الروسية بفضح المناورات الأمريكية، سواء باحتضان بقايا مجموعات القاعدة والنصرة والإخوان المسلمين، التي تتزايد احتمالات انخراطها في القوة العسكرية المنوي تشكيلها برعاية أمريكية في الشمال السوري.

أما النهج الروسي الثاني فهو اعتماد المرونة مع تركيا، عبر اعتبارها شريكاً في عملية أستانا، ثمّ سوتشي، والسعي إلى عدم تركها في أحضان الإدارة الأمريكية. وفي الوقت نفسه، تعرف تركيا أنّ روسيا لن ترضى بأن يشكل الاحتلال العسكري التركي والأمريكي للشمال السوري، تهديداً لما حققته من إنجازاتٍ على مستوى دورها ونفوذها ومصالحها.

في المقابل تعتبر إيران أنّ العملية العسكرية التركية تشكّل اعتدءً على سورية، وأن الخطة الأمريكية في الشمال السوري تمثّل خطراً على الدولة الايرانية. ولن تقف إيران موقف المتفرّج، بل تستمر في دعمها العسكري والسياسي للنظام وحلفائه، وتعزز وجودها المباشر على الصعد كافّة.
وفي الاتّجاه نفسه يعتبر حزب الله أنّ دوره العسكري داخل سورية في مواجهة الإرهاب التكفيري لم ينته بعد، وهو باقٍ عبر المشاركة العملية مع الجيش السوري في المعارك العسكرية في الشمال السوري وإدلب.

وفي إطار الموقف الرسمي الكردي من عملية عفرين التركية، وجدت القوات الكردية نفسها في (ورطة): فهي رفضت من جهة الاقتراح الروسي بدخول الجيش السوري إلى عفرين، ولكنها وجّهت في المقابل نداءً إلى الحكومة السورية بالدفاع عن عفرين لأنّها جزء من الاراضي السورية، بعد تلمّسها الإصرار التركي وكثافة الاعتداءات البرية والجوية، وبعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية أنّ عفرين لا تعنيها، بل همّها الرقة وشرق الفرات باتجاه الحدود السورية العراقية.

هكذا خاب ظنّ الأكراد ولمسوا تكرار المساومة الأمريكية عليهم، كما حصل مؤخراً في كردستان العراق. وهم يتعرضون راهناً لضغوط من العشائر العربية السورية التي تعيش في هذه المنطقة، بدعوتهم للتخلّي عن خطّتهم الرامية إلى إقامة كيان كردي بحماية أمريكية في الشمال السوري.

إنّ العدوان التركي المتجدّد ضد عفرين هو عدوان على الدولة والشعب والأرض. والخطة الأمريكية في الشمال السوري، سواء كانت تنسيقاً أو تحاصصاً أو تنافساً مع الخطة التركية، تمثّل خطراً واعتداءً سافرين على سورية ووحدة شعبها وأرضها، كحلقة أساسية من حلقات مشروع الشرق الأوسط الجديد، الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية،
وتكريس السياسات العدوانية والعنصرية الصهيونية ضد الشعوب العربية، عبر تقسيم الدول العربية إلى كيانات دينيّة إثنيّة طائفية متقاتلة فيما بينها، تسهّل للقوى الكبرى مواصلة نهب الثروات العربية واستغلالها. إن هذا الأمر يجعلنا في الحزب الشيوعي اللبناني معنيين أكثر بمواجهة كلّ من الخطة الأمريكية والعدوان التركي ضد سورية.
ولذلك ندعو مجدداً كل القوى اليساريّة والتقدمية والوطنية العربيّة إلى تحمّل مسؤولياتها التاريخية في الانخراط الجدي والمواجهة والعمل الحثيث لبناء مقاومة عربية شاملة للتصدي للمشروع الأمريكي والصهيوني والرجعي العربي، ولمشاريع التفتيت والتقسيم المذهبي والقومي في المنطقة.
ويؤكّد الحزب الشيوعي اللبناني أن الحلّ السياسي للأزمة السورية، على قاعدة قيام الدولة العلمانيّة الديمقراطية ووفق ما يقرّره الشعب السوري، هو الأساس الذي يلبي حقوق ومصالح هذا الشعب، ويعطي الحقوق الاقتصادية والثقافية لكلّ المواطنين السوريين
على قدم المساواة، وفي طليعتهم الأكراد، ويعزز الدور التاريخي للشعب السوري في مواجهة المطامع والمخططات الأمريكية والصهيونية ضد سورية والمنطقة العربية.

افتتاحية العدد 330 من مجلة (النداء) اللبنانية

العدد 1107 - 22/5/2024