فخ عفرين: مصير تركيا في حلف الناتو؟!

 تم تأسيس حلف شمال الأطلسي في عام ،1949 وكانت الأهداف المعلنة بأنه سيكون حصناً (للديمقراطية) ضد المد الشيوعي السوفييتي (الشمولي)؛ وقد أُقنِع الشعب الأمريكي آنذاك بأن هذا المد (سيعبر المحيط الأطلسي) ليصل إلى الشواطئ الأمريكية. إلا أن هذا الحلف كان دائماً أداةً لإشعال النزاعات بيد تجار الحروب في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدّى، بين الفينة والفينة، إلى ظهور بعض الأصوات الأوربية (الخافتة) حول القيم التي بُني الحلف عليها، أي الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. ونظراً لغياب المعايير الدقيقة والواضحة للديمقراطية، أصبحت لغة المصالح هي المعيار في علاقة أعضاء الحلف فيما بينهم، وفي علاقة الحلف مع باقي دول العالم.

نعلم جميعاً أن تركيا دُعيت للانضمام إلى حلف الناتو بهدف حماية جناحه الجنوبي في وجه العالم الإسلامي والاتحاد السوفيتي، وليس لانبهار الغرب بـ (الديمقراطية التركية) أو سعياً لتعزيز هذه القيم فيها، لذلك نرى أن الأولوية في الناتو كانت للقضايا الأمنية الغربية دائماً، وليس لمصلحة تركيا.

مع بدء الاعتداء التركي على عفرين، وتوعد أردوغان بالقضاء على (قوات أمن الحدود) التي تنوي الولايات المتحدة إنشاءها من الوحدات الكردية في سورية، ظهر في الصحافة الأمريكية موقفان متباينان:

1-الموقف الأول: ويتمثل بالدعوة إلى (طرد) تركيا من حلف الناتو، نظراً لأنها لا تحقق شروط العضوية، لا سيما النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان والحريات والاقتصاد المستقر والإعلام وغيرها؛ وقد وصل الأمر ببعضهم إلى وصف أردوغان بالدكتاتور، الذي يقوم بحملة (أسلمة) بطيئة، على غرار حركة (بان-تركيسم(*))، ليصبح خليفةً على جميع الشعوب الناطقة بالتركية، وصولاً إلى الصين! إلا أن السبب الحقيقي لتصاعد هذه اللهجة هو تعارض المصالح التركية مع مصالح الولايات المتحدة؛ فالأخيرة تسعى جاهدة لإقامة دولة كردية مستقلة، وهذا أصبح واضحاً لكل المراقبين.

2-الموقف الثاني: وهو موقف مثير للجدل؛ يحاكي موقف السيناتور الجمهوري روبرت تافت، الذي صوّت ضد معاهدة حلف شمال الأطلسي في عام 1949 في مجلس الشيوخ الأمريكي. يعتقد أصحاب هذا الموقف بأن عضوية حلف الناتو جرّت الولايات المتحدة إلى مؤامراتٍ، ليس في أوربا فحسب بل في آسيا الصغرى وما خلفها، وأن حلف الناتو لم يكن يوماً للدفاع عن (الديمقراطية)، ولا حتى مصالح الولايات المتحدة، بل لتلبية أطماع بعض تجار الحروب، الذين جلبوا الخراب لشعبنا وجيراننا، وأن الوقت قد حان لتطبيق شعار (أمريكا أولاً)، وبالتالي لا بد من طرد تركيا من حلف الناتو وكذلك الولايات المتحدة! إلا أن أصحاب هذا الموقف تناسوا فيما يبدو أن (الاستراتيجة الأمنية) التي اتخذت (أمريكا أولاً) شعاراً لها، هي نفسها اعتبرت أن روسيا والصين (تحاولان تدمير الأمن والرخاء الأمريكيين)، وبالتالي فإن إقامة (الدولة الكردية المستقلة) وتسريع (بناء الدرع الصاروخية) في أوربا الشرقية ما هي في الواقع سوى الخطوات الأولى لتنفيذ هذه الاستراتيجية.

وسط هذه التعقيدات والتداخلات الجيوبوليتيكية، يجدر بنا مناقشة الموقف الروسي من الاعتداء التركي على عفرين؛ فقد ظهرت بعض الأصوات التي تؤكد وجود (صفقة روسية- تركية) حوله، إلا أن سيرورة الأحداث تنفي هذا الاحتمال، فعدم الرد الروسي على هذا الاعتداء أو سحب المراقبين العسكريين من محيط المدينة لا يعني بشكل من الأشكال موافقة روسية على هذا العدوان، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هناك اختلاف واضح بين المصالح الروسية والتركية في المنطقة، وروسيا سعت إلى استثمار نقاط التقارب والتقاطع مع تركيا بهدف التعجيل في حل الأزمة السورية، وهذا ما عبّرت عنه المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في موجزها الصحفي بتاريخ 25 كانون الثاني 2018.

بالمقابل بدأت تتصاعد الأصوات حول أهمية حلف الناتو وفوائده بالنسبة لتركيا؛ فلقد مرت تركيا بسنوات عجاف، اتّصفت بالانقلابات العسكرية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإرهاب المنظّم والصراعات الداخلية وعدم الاستقرار، لم يسهم حلف الناتو البتة فيها بمساعدة تركيا. إضافةً إلى ذلك، تشير استطلاعات الرأي الحديثة بأن غالبية الأتراك يعتبرون الولايات المتحدة أكبر تهديد لتركيا، وأن روسيا حليفةً لها؛ وهذا ما يؤكد من جديد تراجع الثقة بالدور الأمريكي حتى من قبل حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، مقابل تزايد الثقة بالدور الروسي في حل الأزمات والنزاعات السياسية.

بناءً على ما سبق، هل يتعلم الساسة الأتراك من التاريخ القريب قبل البعيد، أن الغرب استغل ويستغل عضوية تركيا في حلف الناتو لتحقيق مصالحه وتمرير مخططاته في المنطقة، وأن هذه العضوية شكلية لا أكثر، وخير دليل على ذلك هي المحاولات الأمريكية المستميتة لإقامة الدولة الكردية المستقلة، ضاربة بعرض الحائط جميع المواثيق والقوانين والمعاهدات الدولية وعلاقات الصداقة مع تركيا.

******************

(*) بان- تركيسم: وهي حركة ظهرت في ثمانينيات القرن التاسع عشر بين المفكرين، في أذربيجان والإمبراطورية العثمانية، وتهدف إلى التوحيد الثقافي والسياسي للشعوب التركية.

العدد 1104 - 24/4/2024