آذار الأسـوَد 2011

 حين كانت أبواق الدعاية الخليجية والمصرية تؤجّج، على مدار الساعة، الصراع السنّي الشيعي، وخاصة خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 وبعده، لن أنسى ما حييت الصدمة التي أصابتني عندما كنت في الشارع مرتديا بلوزة تزيّنها صورة المناضل الأممي الراحل تشي غيفارا، وإذا بصوت مرتفع يوجه شتيمة لغيفارا والسيد حسن نصر الله! كان صوت صديق قديم علماني يساري هو أحد مثقفي اللاذقية المعروفين، ظننت لأول وهلة أنها مزحة ثقيلة، قبل أن ندخل في نقاش فاجأني أنه موقف جدي انفعالي حاد صادم يجسد مدى تأثير الدعاية على الناس كافةً. انهارت في نظري على أثره هيبة المثقف اليساري حين يتحول إلى أداة مطواعة ملقنة في مشروع استعماري، وكان ذلك مرعباً لأنني كنت حتى ذلك الوقت مقتنعاً باستحالة تحقيق الدعاية لأغراضها الخبيثة، لا لأن الجميع يفهم بالضرورة ما يخطط له في كواليس المخابرات الأمريكية، ولكن على الأقل بسبب الكراهية الشعبية المتنامية لتلك السياسة الإجرامية والمجازر المرتكبة في أفغانستان والعراق وقد ترتكب في سورية الموضوعة على القائمة الأمريكية للدول المستهدفة.

بعد أن حققت استراتيجية الاحتواء الأمريكية أهمَّ أهدافها بإسقاط المنظومة الشيوعية، عولمت واشنطن نفوذها العسكري والاقتصادي والسياسي بلا منازع في استراتيجية إخضاع جديدة تقوم على الغطرسة والخرق الصارخ لحقوق الدول المنصوص عليها في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة معيدة بشكل منفرد الجموح الاستعماري بعد أن كاد العالم أن يتعافى منه، وذلك بذريعة نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب الذي هو صنيعة مخابراتها المركزية أصلاً.

لكن الكلفة الباهظة للحرب على أفغانستان 2001 والعراق 2003 وفشل الكيان الصهيوني في عدوانه على لبنان 2006 والأزمة المالية العالمية الخانقة 2008 فرضت تكتيكات مختلفة بديلة للتدخل العسكري المباشر في محاولات أمركة العالم تستنهض خطط (جين شارب) لضرب الاستقرار الداخلي على غرار ما سمي بالثورات المخملية داخل المنظومة الشيوعية السابقة، ولم يكن (الربيع العربي) سوى نسخة محدثة من تلك الخطط تنسجم مع البيئة الاجتماعية العربية بقابليتها التراثية للاشتعال الطائفي والمذهبي والإثني وسهولة استثمار معاناة طبقاتها المفقرة.

وقتذاك كان الهدوء الذي يسبق العاصفة مخيماً على الساحة الداخلية السورية التي تتراكم فيها التناقضات الاجتماعية، بسبب نتائج النهج الاقتصادي اللبرالي، من خصخصة وتهميش وعشوائيات وفقر وعجز في خلق التوازن بين الرواتب والأجور وبين تكاليف حياة الناس الذين فقدوا رعاية الدولة ، إضافة إلى الضغط الأمني والفساد المستشري في الإدارات والمرافق العامة، والحاجة إلى التعددية الاقتصادية والسياسية وشفافية العلاقة بين المسؤول والمواطن، وتحديث الدستور والقوانين الناظمة ورفع حالة الطوارئ المستعصية …الخ. وهو ما كان يفترض أن تعبر عنه أية احتجاجات محتملة، ولكن سمات آذار 2011 الذي بدأ في درعا لا تتضمن علاجاً لأي من تلك الأسباب الداخلية الجوهرية ولا مطالب تتعلق بها، بل استثماراً لها لمصلحة أهداف خارجية استبعدتها نهائياً النخب المثقفة المأجورة والإعلام الموجه من خلال فصل الأزمة السورية عن سياقها الموضوعي ومحوٍ تام لارتباطها بالعولمة المتوحشة من وعي الرأي العام للحفاظ على وجهته العدائية العبثية نحو الداخل بما يخدم ويحقق تلك الأهداف، وهو ما وضع الحراك موضع المسرحية وكشف وجهته منذ لحظاته الأولى.

يوم 25 آذار، بعد أيام من تظاهرات درعا، انطلقت أول مظاهرة في اللاذقية  من المساجد، ورأيت بنفسي عصر ذلك اليوم عشرات النماذج من (عقيد باب الحارة) مع سلاحهم الأبيض وقد أغلقوا شارع القوتلي، لم نسمع أية شعارات ذات محتوى طبقي، اجتماعي يربط بين معاناة المواطن السوري واحتجاجه، كانت شعارات برائحة (جين شارب) المنفرة:(بالروح بالدم نفديك يا درعا)، (لا إيران ولا حزب الله) (الله سورية وحرية وبس)! وبدأت اللهجة بالتصاعد المدروس، فيوم 3/8 /2011 كان الحشد يغني: (يلعن روحك… واحد اتنين الشعب السوري وين… الله أكبر لا إله إلا الله، غير الله ما رح نسمع، عالجنّة رايحين شهداء بالملايين). ويوم 8/8/2011 تعالى الصراخ: ( الشعب يريد إسقاط النظام).

الأشد خطورة كان تأثير الشيخ السلفي عدنان العرعور الذي نال لقب (شيخ الثورة)، بخطابه التحرضي المذهبي الدموي المطالب علنا باستهداف الأقليات، وهو المتحكم بسلوكيات المتظاهرين ومبتكر شعار التكبير الليلي وهستيريا قرع الطناجر، والاستجابة الواسعة لدعواته التي بدا الحراك في نسبته العظمى مصبوغاً بصبغته التكفيرية، مما أضفى عليه سمته المذهبية وجذّر الشرخ بين المكونات الاجتماعية السورية بشكل غير مسبوق في تاريخ سورية المعاصر.

في ذلك الجو المشحون بحماس أخرق، كان الحديث عن أسباب موضوعية ودور خارجي أشبه بالكفر داخل معبد، يثير زوبعة من الاستنكار والشجب والسخرية والترديد الببغائي لعبارات ممعنة في التضليل، مفصّلة خصيصاً للحفاظ على أحادية الرؤية وحدّة المواقف واستفحال الشرخ الاجتماعي مثل (أصحاب نظرية المؤامرة) (الشبيحة)، (الوقوف ضد الشعب)… الخ .

اليوم في آذار 2018 آن الأوان لوضع وثائق إدوارد سنودن في وجه كل من ساهم في تجنيد شعبنا لصالح المشروع الخارجي صانعاً مأساتنا التاريخية الدامية، ونحن نقف على أنقاض مدن مدمرة، أجزاء واسعة من بلدنا تحت الاحتلال الأمريكي والتركي والإسرائيلي والجماعات الإرهابية المسلحة، نصف شعبنا هجر وقتل وأصيب وفقد، والذاكرة ترتجف من مشاهد لم تصل إلى شناعتها السادية أكثر أفلام الرعب وحشيةً، عدا معاناة الناس الهائلة من الفقر والجوع والتشرد والآمال المتبددة على وقع التهديد العسكري الغربي المستمر عند كل محاولة للحل السياسي.

يقول ضابط المخابرات الأمريكية السابق سنودن في وثيقته التي أقدم هنا اختصار لها:

اجتمع في لندن يوم 19/2/2004 مديرو المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية في قصر أحد الأمراء العرب جنوب لندن لمدة ثلاثة أيام وتقرر أن يتم العمل على شقين، الأول تأسيس تنظيم متطرف، والثاني القضاء التام على حزب الله اللبناني.

اختاروا لتأسيس تنظيم (الدولة الإسلامية) أحمد فاضل نزال الخلايلة الذي لقب بأبي مصعب الزرقاوي، المطلق سراحه من سجون الأردن وأخضع للتدريب في معسكرات (سي آي إي) تحت إشراف العقيد البريطاني مايكل أريسون.

جرى تحويل 860 مليون دولار للتنظيم تنقل بالشاحنات إلى الزرقاوي ليقوم بإرسال المتدربين إلى معسكر مراد ناظملي في غازي عنتاب.

بعد تمرد الزرقاوي على قائده البريطاني قتله الأخير في بعقوبة عام 2006 وسلم التنظيم لإبراهيم البدري المكنى بأبي بكر البغدادي الذي اخرج من سجن بوكا في بغداد ونقل بطائرة أمريكية إلى إسرائيل حيث تلقى تدريباً عسكرياً ومخابراتياً مكثفاً لدى الموساد في مركز ناحال موشي ثم أعيد إلى العراق لتجنيد المهمشين من السنة وقتال المحتلين والروافض.

في أيلول 2006 قررت إسرائيل تنفيذ عملية إنزال بحري وجوي للقضاء على حزب الله خلال عشرة أيام، وفي منتصف حزيران بدأ التنفيذ وامتدت الحرب لمدة 33 يوماً دمرت خلالها إسرائيل البنية التحتية للبنان من الشمال إلى الجنوب دون أن تتمكن من القضاء على حزب الله، بل إنها خرجت بخسائر هائلة وبنتيجة أن القضاء على حزب الله لن يتحقق إلا بتجفيف منابعه من سورية وإيران. وهكذا بدأت خطط الإعداد الإسرائيلية الأمريكية العربية.

يتابع سنودن: في نيسان 2007 استدعي البغدادي إلى تركيا، ونقل منها بالطائرة إلى تل أبيب، وطُلب منه استيعاب أعداد كبيرة من المقاتلين السنة من السعودية واليمن وبريطانيا وفرنسا وو..الخ وفتح مركز تدريب لهم في غازي عنتاب، وكلِّف أشرف ريفي ووسام الحسن (من مديرية الأمن الداخلي اللبناني) بتهريب الأسلحة إلى القرى السورية التي يغلب فيها نفوذ الإخوان المسلمين، كما بدأ ضخ الأموال إلى الداخل السوري، وما إن انطلقت الانتفاضة في درعا حتى كان هناك 17 ألف مسلح سوري مدربين في تركيا وبعض الدول العربية يصرف لكل منهم 750 دولار شهرياً، كما طلب من البغدادي التوسع في الداخل السوري، وعملت الأجهزة على أن تكون سورية محطة يجتمع فيها كل متطرفي العالم الإسلاميين.

وثيقة سنودن ليست سوى الأبرز بين عشرات الوثائق التي تكشفت تباعاً خلال السنوات التي أعقبت آذار 2011 وتؤكد جميعها أن ذلك التاريخ الأسود كان فاتحة الحرب المخطط لها مسبقاً على سورية، وتؤكد أيضاً أن من أوهموا الشعب السوري بالثورة ليسوا هم من كانوا يقفون معه، من كانوا يقفون فعلا مع الشعب هم الذين لم يورطوه، لم يستغلوا جوعه، لم يجندوه لصالح قوى العدوان الخارجي، ولم يضحوا به على هذا المذبح التاريخي الكبير.

العدد 1107 - 22/5/2024