الانتظار.. لا شيء سوى الانتظار

د. نهلة الخطيب:

دونالد ترامب الذي لم يفارقنا شبحه طيلة الأربع سنوات الماضية، وصل رسمياً إلى البيت الأبيض، الجنون الأمريكي المعروف بقرارته الجريئة التي يتعدى تأثيرها حدود أمريكا، مما يشكّل مصدر قلق للعالم كلّه. الصين أشدّ قلقاً، وروسيا أقلّ قلقاً، والعصيان الأوربي يلوح في الأفق، والشرق الأوسط يستعدّ، بعد أن جرى تحضير المنطقة بحرب طاحنة شنّها سلفه وحزبه، ها هي ذي غزّة أضحت حطاماً، وكذلك لبنان، وسورية محاصَرة، والعراق مفكّك، هي الوصاية الأمريكية أخيراً، ومتى لم يكن الشرق الأوسط كلّه تحت الوصاية الأمريكية؟!

ترامب أتى بأجندة تصادمية غير طبيعية، طرح الأشياء بطريقة فجّة وهو يكرّر التلويح بالعصا، وبالطريقة الترامبية: (أنا أمريكا، أنا العالم!)، ففي الحلبة، حسبما يرى، لاعبٌ واحد، قرّر اتّباع سياسة الهيمنة على نحوٍ لا يصدَّق: (العصر الذهبي للولايات المتحدة الأمريكية يعود مجدداً بعودتي)، أصبح خليج المكسيك خليجاً أمريكياً، وهو يناور على غرينلاند وكندا، يريد أن يفعل كل ما بوسعه لتحسين الاقتصاد الأمريكي المرتبط بالاتحاد الأوربي والصين وبكل دول العالم، وحماية صناعة أمريكا وجذب الشركات للاستثمار داخلها (وإلّا) ستفرض عليها رسوم جمركية، عودة التعريفات الجمركية على جميع الواردات وخصوصاً قطاع السيارات والمعادن بنسب قد تصل إلى 60%، وغيرها من التدابير الاقتصادية القسرية ضد حلفاء الولايات المتحدة، وبضمنهم الاتحاد الأوربي لخفض العجز التجاري معهم، قد توجّه ضربةً قوية لاقتصادات الدول الأوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا، التي تعتمد بشكل كبير على التصدير، وتعدّ ألمانيا من أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة الأمريكية خاصة صناعة السيارات والأدوية.

من الخطأ اعتبار ترامب صوتاً نشازاً، فهو يتكلم باسم النخبة التجارية والاقتصادية واللوبي النفطي، ويرى حل مشكلة الاقتصاد الأمريكي بخفض الانفاق، ورفع الإنتاج، والاستيلاء على الاستثمارات والأبحاث العلمية والتكنولوجيا، فالصين لها الريادة، سيحاصرها بعد أن خسرت أمريكا المنافسة التجارية معها، وسيزيد التنافس الصيني الأمريكي في العالم، ويخنق اقتصاد الصين، وهو ما يهدد بتأجيج الصراع بين أمريكا والصين واتساع نطاقه، وقد يقتصر على العقوبات الاقتصادية مقابل تراجع الصين عن المنافسة القطبية.

النظام الدولي القائم على مؤسسات دولية كبيرة سيواجه صعوبات بعد قرار ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، نظافة الكوكب لا يعيرها أدنى اهتمام، وبدل التركيز على الطاقة النظيفة أصدر تشريعات لزيادة استخراج النفط الأحفوري، وبذلك تصبح أمريكا مع الصين من أكثر الدول التي تلوث الكوكب. سيخفض أسعار النفط ويصدّره، فالنفط الأمريكي ضد النفط العربي، فالعرب بمأزق كما العالم وربما أسوأ، طالب الأوبك بخفض أسعار النفط ، فهو يرى أن ارتفاع أسعاره هو السبب الرئيسي في استمرار حرب روسيا على أوكرانيا، بمحاولة لتجنب نقد بوتين بشكل مباشر، وتبرير فشله بإيقاف الحرب خلال 24 ساعة، لأن سقوط أوكرانيا يعني سقوط دول أوربية أخرى، وهذا أمر لا ترغب فيه الدولة العميقة في أمريكا، بغض النظر عن موقف ترامب المعادي للحلف وللاتحاد، وبالتالي لا يستطيع القيام بتغيير استراتيجي في الموقف الأمريكي من أوكرانيا إلّا ضمن حدود معيّنة.

دول الخليج التي انضمّت للبريكس تدرك أن الحماية العسكرية الأمريكية لن تكون دون مقابل، يؤكد ذلك محاولات ترامب الضغط وابتزاز حلفائه من الدول العربية والاتحاد الأوربي، فقد طرح مشروعاً اقتصادياً ضخماً بقيمة 600 مليار دولار هي استثمار من السعودية، وطرح موضوع تسليح الناتو (لماذا نحن ندفع كل هذه الأموال لحلف الناتو)، وطلب ترامب من أعضاء إدارته زيادة ميزانيتهم الدفاعية إلى 5% من قيمة الناتج المحلي.

تجدر الإشارة أنّه لا يطلب، هو يفرض فرضاً. أوربا على المحكّ في أمنها الطاقي وعجزها عن حسم التهديدات الوجودية سبّبت تباينات وخلافات عميقة بينها، بعد أن خسرت ألمانيا مكانتها الجيوسياسية عما كانت عليه في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، وماكرون البطّة العرجاء في فرنسا تحت وطأة اليمين المتطرف، هذه الدول تحاول أن تأخذ ترامب على محمل الجدّ وتسايره حتى تمر الأربع سنوات دون صدام مع الولايات المتحدة. لا أحد سيتجرأ لمواجهة الجنون الأمريكي، الحل هو الانتظار، لا شيء سوى الانتظار!!

فيما يتعلق بإسرائيل، إسرائيل لها حصة الأسد، فالآن زمن البراغماتية التي تبحث عن صفقة القتل والتدمير والخراب، لماذا كل تلك الهمجية في هدم البيوت على أهلها، لتقول «إسرائيل باقية فوق صدوركم إلى الأبد»، ترامب يفرض السلم في غزة بعد نفي ألاف الفلسطينيين ككائنات بشرية، قدم نفسه الرجل الذي سينهي الحروب وصانع السلام، وها نحن نستغيث بالقاتل من القاتل، من غير ترامب يخرجنا من الجحيم، إذا كان الأمر كذلك فالنهايات ليست سعيدة، ترامب سينهي الحرب بضربة أكبر للفلسطينيين والعرب، وبما أن الدولة العظمى حامية إسرائيل وداعمة لتشددها وانكارها للحق الفلسطيني فإنها تدرك أن امكانيات التفاوض على دولة تبدو أمراً مستحيلاً، أو أنها تريد دولة بمواصفاتها المطلقة.

بعد توقف القتال تبدو غزة عارية، الصور تظهر هول المأساة والدمار، ومذبحة، لا ندري ما إذا كانت بقيادة نتنياهو، أم بقيادة بايدن، أم الاثنان معاً، توقفت مذبحة غزة وبدأت مذبحة جنين بعد يوم واحد من تنصيب ترامب، بدأت «عملية السور الحديدي» في جنين، في عملية مشابهة لما حدث في غزة، ما هدد به الإسرائيليون يبدو أنه يحدث، ورغم تعهد ترامب بإنهاء جميع الحروب بما فيها الصراع العربي الإسرائيلي، وهو «أزمة لا حل لها الا بالعالم الآخر»، هذا ما قاله هنري كسينجر، فقد تعهد بتوسيع إسرائيل وضم أراضي جديدة لتأخذ مداها التوراتي، وفتح دومينو التطبيع ضمن اطار الأمن مقابل السلام، والدق على وتر الصراع الطائفي بالمنطقة، يضغط على مصر والأردن لنقل سكان غزة والضفة، وافراغ فلسطين من العرب لتصفية القضية الفلسطينية، والتي ستتبعها قرارات ضم الضفة واعلان السيادة على القدس وهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل تتويجاً لتحقيق الحلم التوراتي «إسرائيل الكبرى»، بعد أن أعلن نتنياهو احتلال أجزاء من سوريا ولبنان بعد خرق اتفاق الهدنة، الفلسطينيون يتوقعون ما هو أشد هولاً في ظل التقاطع بين الجنون الأمريكي والجنون الإسرائيلي، ونحن لا حول لنا سوى الانتظار، لا شيء سوى الانتظار ولكنهم يستشعرون أن النهاية آتية لا محالة، نهاية الزمن الأمريكي والصهيوني.

العدد 1140 - 22/01/2025