خيانة عالمية لا تزيد مدّتها عن ثلاث دقائق

د. أحمد ديركي:

الخيانة فعل يقوم به الإنسان في مجتمعه عندما يكسر قانوناً أو عُرفاً محدداً وُضع ليمنع القيام بهذا الفعل. ومن المتعارف عليه عند القيام بفعل الخيانة أن هناك عقوبة توازي هذا الفعل الشائن، بكل المعايير، لأنه فعل لا يتطابق مع ما هو متعارف عليه، سواء كان الفعل على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي.

على المستوى الاجتماعي – والسياسي هناك قوانين ناظمة لأي تركيبة اجتماعية، بغض النظر عن مدى تطور هذا المجتمع أو بدائيته. حتى المجتمعات ما قبل (مجتمع الدولة)، منها على سبيل المثال المجتمع القبلي القائم على أعراف وتقاليد قبلية تحكمه، إذا كسر عرف القبيلة، بمعنى خيانة عرف ما، تفرض القبيلة عقوبة توازي هذا الفعل الخياني. فالخيانة بعامة فعل يؤدي إلى تخلل قد يقود إلى تفكك واضمحلال الجماعة الحاملة لهذه الأعراف والتقاليد. فعلى سبيل المثال لا الحصر من تقاليد القبائل الراسخة مسألة الثأر. فالثأر تقليد قبلي لا يمكن خيانته، لما للثأر من فعل تلاحمي في القبيلة يثبت موقعها ويعبر عن قوتها، وبخاصة إن كان القاتل لفرد القبيلة من خارجها.

حتى في المجتمعات الحديثة، بمعنى مجتمع الدولة، الخيانة فعل لا يمكن أن يمرّ من دون عقاب، لما لهذا التكوين الاجتماعي من أهمية. والاختلاف هنا ما بين المجتمع القبلي ومجتمع الدولة هو أن الدولة بالمفهوم الحديث هي من يحتكر فعل العنف، وبهذا هي من يقوم بمعاقبة الخائن. فيتداخل بهذه الحالة التركيب الاجتماعي مع التركيب السياسي. تركيبان يجتمعان في نقاط تمتّن وجود كلٍّ منهما وتحافظ على العلاقات الرابطة بينهما. لذا نجد في الدولة الحديثة قوانين خاصة بفعل الخيانة على المستوى الاجتماعي، أو السياسي.

أعراف وتقاليد تتشكل عبر عملية الإنتاج ضمن المجتمع لتنسجم مع العملية الإنتاجية وتحافظ عليها، فيتداخل السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي لإنتاج علاقات متوافقة فيما بينها لما يعرف بالدولة الحديثة، أو القبيلة، أو أي تركيب اجتماعي سابق على مفهوم الدولة الحديثة، او حتى لاحق لها. لكننا لم نشهد اللاحق بعد! وإن كثر الحديث عن ما بعد الحداثة، والمجتمعات بعد حداثوية.

تداخل، ما بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يفرض وجود أخلاقيات ملزمة لكل من هو موجود ضمن هذه الحلقة. نعم، أخلاقيات لأن فعل الخيانة يقع ضمن خانة الأخلاقيات ومن يخالفها يستحق العقاب المناسب.

يتوسع هذا المفهوم فيطول العلاقات بين الدول، فكانت القوانين الدولية، التي من المفترض بها أن تحمي هذه الأخلاقيات من فعل الخيانة.

قوانين أوجدت لها الدول مؤسسات (عالمية)، كالأمم المتحدة وتفرعاتها، لتصيغها وتعمل على تطبيقها وحمايتها من الخيانة من قبل دول أخرى أو مؤسسات أو أفرد. وهذه الصيغة الدولية تضم كل الدول، فأي فعل خياني لهذه القوانين تقوم به دولة ما يوجب على هذه المؤسسة أن تردع، بمعاونة الدول الأخرى، هذه الدولة لارتكابها فعل خيانة القوانين الدولية، بمعنى ألطف عدم الالتزام بالقوانين الدولية.

وقعت ملايين الحوادث الواضحة من أفعال خيانة القوانين الدولية، في كل أنحاء العالم، هناك ما نعرفه وهناك ما لا نعرفه! لكن تبقى فلسطين والقضية الفلسطينية من أبرز القضايا التي تُخان فيها القوانين بكل الصيغ وصولاً إلى من يُفترض به أن يحمي القوانين الدولية يخون القوانين الدولية، أي أن فعل الخيانة هنا فعل عالمي. الكيان الصهيوني ومن يخون هذه القوانين الدولية علناً وجهاراً، والدول جميعها تدعم خيانته لهذه القوانين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

ولا يتوقف الأمر عند حدود علنية خيانة القوانين الدولية بالقول والفعل في فلسطين وبحق القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بل يتعداه إلى حد إلغائه بموافقة من يفترض أن يحمي القوانين الدولية.

كيان صهيوني يتسلح بتغطية سياسية عالمية وبأحدث أسلحة القتل الأمريكية – الأوربية الصنع، يغتال من يشاء في أي بقعة عربية، وتحديداً في لبنان وسورية حتى الآن. ومن المحتمل أن يوسع رقعة اغتيالاته أو ضرباته إلى دول عربية أخرى. طبعاً ليست دول الخليج (العربي) لأنها من داعميه بأموالهم وبخياناتهم للقضية الفلسطينية، ولا مع بقية الدول (العربية) المطبعة معه.

في لبنان معركة مقاومة شرسة ضد الكيان الصهيوني براً، والكيان ما يزال يفوز بدك لبنان جواً، وينهزم براً. الخيانة خلال هذه المعركة متعددة الأوجه، لا تنحصر فقط بخيانة الداخل والخارج للمقاومة ولكل مقاوم، بل أخذت بعداً جديداً وفاضحاً. بعد يتمثل بخيانة علنية أتت من قبل قوات اليونيفل، وهي قوة عسكرية تابعة مباشرة للأمم المتحدة. خيانة تمثلت باختطاف مواطن لبناني من أرض لبنان يعمل قبطاناً بحرياً على سفن مدنية.

العملية: دخلت بحراً وحدة كوماندوس صهيونية قوامها ما يزيد عن 25 صهيونياً، وحطت على شواطى البترون، بالقرب من المدرسة البحرية التي يتابع بها عماد أمهز دراسته، واقتادته على ما يبدو إلى داخل فلسطين المحتلة.

لتصل القوة الصهيونية إلى الشاطئ اللبناني عليها أن تخترق حاجزين أساسيين: الأول قوات اليونيفل البحرية المسؤولة عن حماية الشواطئ اللبنانية، والثاني الجيش اللبناني المفترض به أن يفعل ما تفعله اليونيفل، وبخاصة أن كل التقارير تقول إن مهمته منع تهريب الفارين من نير الواقع الاقتصادي في لبنان إلى الخارج.

أي أن المراقبة البحرية لشواطئ لبنان من هاتين القوتين العسكريتين من المفترض أن تكون على مستوى المهام المطلوبة منهما. فما حدث هو أن الكوماندوس الصهيوني اخترقهما بكل سهولة بمركب بحري، لا بد أن يكون عسكرياً، ولا بد أنه ليس بحجم صغير لأنه يحمل بأقل تعديل ما يزيد عن 25 فرداً صهيونياً. ما يقارب 20 إلى 25 فرداً صهيونياً استخدموا قوارب مطاطية للوصول إلى الشاطئ. أي أن المركب الأساسي الذي كانوا عليه كان يحمل مراكب مطاطية، وأكثر من 25 فرداً صهيونياً، لذا ليس بمركب صغير لا تراه العين المجردة!

حطوا على الشاطئ، اختطفوا عماد أمهز من غرفته التي يسكنها، وهي بالقرب من المدرسة البحرية، واقتادوه، كما يبدو إلى القوارب المطاطية. وقادوا القوارب المطاطية إلى المركب الرئيسي الذي كان بانتظارهم، وعادوا أدراجهم إلى فلسطين المحتلة.

تمت عملية النزول على الشواطئ والاختطاف والعودة إلى المراكب المطاطية والوصول إلى المركب الصهيوني الأساسي بما لا يزيد عن ثلاث دقائق.

اليونيفل الموكلة بحماية الشواطئ اللبنانية تقول إنها لم ترَ شيئاً! وعلّقت نائبة الناطق الرسمي باسم اليونيفيل، على حادثة البترون قائلة (إن اليونيفيل ليس لها أي علاقة في تسهيل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك آخر للسيادة اللبنانيّة).

تصريح بالنسبة لها كاف لتتبرّأء من خيانتها للمقاومة. لكن يبدو أن نائبة الناطق الرسمي باسم اليونيفل عليها العودة إلى دراسة المرحلة الإبتدائية لتعي ما تقول. لأن قولها هذا لا يعني أن قوات اليونيفل لم تكن تعلم بعملية الكوماندوس الصهيوني! فجوهر ما قالته يعني أنها لم تسهل عملية الاختطاف! أي لم تساهم بأي خطوة ليكون الاختطاف سهلاً، ولكن ما فعلته عكس ما قالته، فاليونيفل وفقاً لتصريحاتها وما تتضمنه من معنى أنها كانت تعلم بالعملية، فقد سهلت عملية الاختطاف بطريقة غير مباشرة وهي الصمت عن منع العملية! والأجهزة الأمنية اللبنانية ما زالت تحقق في الأمر. طبعاً قد تصدر نتائج التحقيقات الأمنية في لبنان بعد عدة قرون! فمن تحقيقات مجزرة صبرا وشاتيلا وصولاً إلى تحقيقات اغتيال رفيق الحريري إلى تفجيرات المرفأ، لم يصل التحقيق في لبنان إلى خواتمه ولا في أي قضية منهم وما زال التحقيق جارياً!

فاجتمعت خيانة اليونيفل مع كل خائن للمقاومة أينما وُجد، ومهما كانت صفته، لتعبر عن خيانة عالمية علنية مدتها لا تزيد عن ثلاث دقائق.

الأمر المؤكد لفعل خيانتها هو اعتراف الكيان الصهيوني بعملية الخطف! المذنب اعترف بأنه قام بالاختطاف والمعتدى عليه والمفروض أن يحمي القوانين الدولية يقول إنه لم ير! حتى لم يطلب من الكيان الصهيوني أي أمر أو يحضره للاستجواب… اعتراف علني بالاختطاف واختراق علني لقوات اليونيفل، أليس هذا بفعل خيانة عالمية؟

لقد قال الجيش الصهيوني في بيان رسمي منه: إن وحدة الكوماندوز البحري (شايطيت 13) اعتقلت عنصراً من حزب الله يمتلك معرفة واسعة في المجال البحري، وتوعد بالعمل على أسر عناصر بارزة في حزب الله أينما استطاع، وفق تعبيره. أليس هذا اعترافاً علنياً ورسمياً من الكيان الصهيوني بأنه قام بعملية الاختطاف لمواطن لبناني وأنه اخترق علناً قوات اليونيفل والجيش اللبناني؟ وما هو متعارف عليه عالمياً عندما يقر المذنب بفعلته يستدعى للتحقيق لا يكافأ باطلاق حريته من دون قيد أو شرط لاستكمال جرائمه! وإن حدث هذا فحامي القانون خائن يجب محاكمته وإعدامه رمياً بالرصاص لأنه خان علناً دولة يدعي أنه يحميها.

واعتراف الكيان الصهيوني بالخطف لا يتوقف عند الاعتراف الرسمي، إن كانت اليونيفل لا تر، فبالتأكيد هي تسمع. فليس بالضرورة للأعمى أن يكون أطرش وأمّياً لا يجيد القراءة والكتابة. خبر الاختطاف الذي عبر عنه رسمياً جيش الكيان الصهيوني تناقلته الصحف الصهيونية، فكتبت صحيفة معاريف الصهيونية (عن مصادر أن وحدة الكوماندوز البحرية الإسرائيلية (شايطيت 13)، وصلت إلى عمق 200 كيلومتر داخل لبنان تحت حماية سفن وصواريخ إسرائيلية، وغادرت الساحل باستخدام سفن سريعة، بعد اختطاف أمهز من منزله). وهنا الخيانة أعظم. فالاختطاف تم بمرافقة سفن وصورايخ! وللصاروخ صوت ومسافة الـ200 كلم مسافة كافية وأكثر من كافية كي لا ترى اليونيفل، ومن مفترض به أن يحمي شواطئ لبنان، (سفن) صهيونية تتوغل كل هذه المسافة بحراً!

ما اختطاف أمهز سوى دليل آخر على مدى مستويات الخيانة وأوجهها، المحلية والإقليمية والعالمية، لفلسطين والقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ولكل مقاوم للكيان الصهيوني. كيان يستمد قوته وجبروته من أفعال الخيانة الداعمة له. إن أردتم لفلسطين وقضيتها أن تنتصر على الكيان الصهيوني فما عليكم سوى أن تكفوا عن أفعالكم الخائنة للقضية الفلسطينية، والمقاومة كفيلة بتحرير فلسطين التاريخية وعودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه وإقامة دولة فلسطين على كل تراب فلسطين.

العدد 1140 - 22/01/2025