قمة بريكس نحو (تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين)

د. نهلة الخطيب:

في ظل تحديات عالمية وجيوسياسية مليئة بالتحولات والتوترات، وتحديداً التسارع الأمريكي الإسرائيلي لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، ومخاوف توسع الصراع في الشرق الأوسط إلى حرب إقليمية شاملة، وما يشهده العالم من جرائم الإبادة والتهجير التي تمارسها إسرائيل ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، والتي تلقي بثقلها على حكومات الدول الغربية والعالم أجمع، دون تحديد زمني لهدنة ووقف لإطلاق النار، ترأّس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة لدول مجموعة البريكس التي عقدت في قازان الروسية، تحت شعار (نحو تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين)، معلناً حضوره على الساحة الدولية وإفشال الجهود الأمريكية والغربية لعزله، وفرصة لتصعيد ما وصفها بالمعركة الوجودية مع الغرب من أجل فرض نظام عالمي جديد ينهي الهيمنة الأمريكية، ويعيد روسيا إلى ما كانت عليه قوّةً عظمى في نظام عالميّ متعدد الأقطاب وتكوين تحالفات إقليمية ودولية.

العالم يقف على أعتاب تغيّرات جذرية، ستساهم قمة بريكس في الدفع من خلالها نحو تعددية مراكز القوى لمواجهة الهيمنة الغربية والسعي لنظام دولي متعدد الأقطاب، وإضافة مؤسسات ذات طابع عالمي في مجال التنمية والتمويل منافسة للمؤسسات القائمة حالياً، وإصلاح النظام المالي العالمي وإنهاء هيمنة الدولار الأمريكي ومحاربة صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يعملان لخدمة الدول الغربية، فقد جرى الاتفاق في القمة على العديد من المسائل الكفيلة بتعزيز حضورها الاقتصادي- السياسي الدولي، بوصفه خطوة مهمة نحو إصلاح المنظومة المالية والنقدية العالمية، يتمثل في إنشاء نظام مدفوعات جديد يقوم على شبكة من البنوك التجارية مرتبطة بعضها بالبعض الآخر من خلال البنوك المركزية لمجموعة بريكس، التي يشكل مجموع دخلها القومي ثلث الناتج العالمي وأكثر، ويهدف إلى دعم الدول النامية وتزويدها بالقروض الإنمائية طويلة الأجل التي تحتاجها، على أن تكون شروط عملياته المالية مغايرة لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين، كما أنها حثت دولها على رفع عدد الاتفاقيات التجارية وتسهيل عملية الاقتراض المالي من البنوك وتداولها بالعملة المحلية بحلول عام 2026، وتسعى مجموعة بريكس إلى فكرة تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي لصالح العملات الوطنية وصولاً إلى عملة مشتركة بديلة عن الدولار في ظل ارتفاع مستويات الفائدة الأمريكية بسبب الأزمات والحروب الحالية، وقد فاجأ بوتين الجميع بإظهار العملة الجديدة والتداول بها لأجل غير مسمى، كما أن القمة ناقشت باهتمام أزمة الغذاء العالمي وأوصت بإنشاء بورصة تجارية للحبوب لتحديد أسعارها، لاسيما أن روسيا أكبر مصدّر للقمح بالعالم، فضلاً عن احتياطاتها الضخمة من النفط والغاز، إذ يعتبر ذلك من نقاط قوة هذا التكتل.

قمة بريكس حدثٌ استثنائيّ يحظى باهتمام دولي لاقتناص مقعد عضوية فيها سعت كثير من الدول منها دول عربية (دول نفطية وأخرى منتجة للغاز) للانضمام اليه، لما له من فوائد وتسهيلات اقتصادية تمنحها المجموعة لأعضائها. انضمام دول جديدة يؤثر على التوازنات الجيوسياسية للمجموعة وبالتالي سيكون لها وزنٌ أكبر سياسياً واقتصادياً وثقل دولي، فهي اليوم تمثل 37% من اقتصاد العالم وقد تمثل نصف اقتصاد العالم في عام 2040، إضافة إلى الثقل السكاني (نحو 40% من مجموع سكان العالم)، وأصبحت اقتصادات دول بريكس العشرة متكاملة فيما بينها، فهي تسيطر على احتياطات ضخمة من الغاز والنفط والمعادن، إضافة إلى التكنولوجيا.

وعلى الرغم من وجود تفاوت كبير في النمو الاقتصادي داخل دول المجموعة، كذلك في الاحتياطي النقدي، السوق، الصادرات، ووجود علاقات اقتصادية قوية لدول المجموعة مع الدول الأخرى قياساً بالعلاقات القائمة راهناً بين دول المجموعة نفسها، كذلك التباطؤ في نمو بلدانها رغم أن معدل النمو فيها يظل أسرع من نظيراته في الدول المتقدمة، فإن من شأن قرارات القمة أن تساعد في حل هذه النواقص ووضع الأسس لتجاوزها أيضاً، إذ ينظر إلى هذه المجموعة رغم عمرها القصير مقارنة بالروابط والتكتلات الاقتصادية الأخرى بأنها قد حققت وما تزال العديد من النجاحات الوطنية والدولية وتواصل جهودها للوصول إلى عالم أكثر توازناً واستقراراً.

ورغم أن تركيز هذه القمة واهتمامها بالموضوعات الاقتصادية، إلا أن هناك قضايا أخرى لا تخلو من بعض النوايا السياسية والجيوسياسية ذات طبيعة تنموية محل اهتمام هذه القمة، فقد تضمن البيان الختامي موقفها حول العديد من القضايا الإقليمية والدولية، التي يعانيها عالمنا، وكيفية التعاطي الدولي معها، وخاصة  الصراع العربي الإسرائيلي، اندلاع الحرب في غزة وردة الفعل الأمريكية منها، وتكهنات حول حدوث تفاعلات استراتيجية خطيرة ووشيكة للمنطقة كلها، كإحياء سيناريو شرق أوسط كبير وهذا ما يراهن عليه نتنياهو الذي لم يطلق كلاماً عبثياً حول تغيير الشرق الأوسط، وضع صفقة القرن على الطاولة، بعدما صدرت إشارات حول إعداد الحكومات الغربية لمؤتمر دولي للنظر في خرائط المنطقة، ربما سايكس بيكو جديد، ومحاولة استصدار قرار من مجلس الأمن يتعلق باستحداث منطقة عازلة تمتد إلى ما بعد الليطاني، على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كل ذلك أدى إلى تعديل روسيا لموقفها مما سيؤدي إلى تدهور نسبي للعلاقات الإسرائيلية الروسية، وعلى محاولاتها لبناء نوع من التحالفات المناهضة لأمريكا، وخاصة أن بايدن وضع روسيا وايران وحماس بخندق واحد، وأن كل هذه العمليات تـأتي من المنهج التحالفي ذاته، والأمريكيون يتهمون الروس بمحاولة تضليل حلفائهم من خلال تقارير وطروحات لا تمت بصلة.

ورغم عوامل القوة لا تعد مجموعة بريكس حتى الآن تكتلاً عالمياً فاعلاً في الأزمات الدولية، فهي لا تتبنى مواقف موحدة تجاه أمريكا والغرب، وهناك تباينات واضحة جداً إيران وروسيا، عداء شديد ومواجهات، الصين وباقي دول بريكس بموقف أقل عدائية ولو ظاهرياً، كما تبرز منافسة اقتصادية بين الصين ثاني أكبر اقتصاد بالعالم والهند التي تسعى لتكون بديلها لدى الغرب، إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتجاوز حجم الاقتصاد الهندي نحو 6 تريليونات دولار بحلول 2028، فالعلاقات بين الدول هي علاقات قوة بين الفاعلين والذي يسود هو الأقوى، ومقاييس القوة هي التي تتكلم وليس التنظيم الدولي. محاولات بريكس ومجموعة العشرين وغيرها هي محاولات، ولكن ضمن الاصطفاف والانقسام الحالي في العالم ما بين معسكرين، ومع اختلاف موازيين القوى وخاصة الاقتصادية، هناك انقسام واضح يتموضع وهناك قطبية ثنائية تبرز عملياً هي القطبية الأمريكية الصينية.

نأمل لمجموعة بريكس دوراً استراتيجياً وأن تكون ندّاً في مواجهة أمريكا، لتأكيد رؤيتها نحو (تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين)، والالتزام بأنظمة وقوانين المنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، بوصفها المرجعية الدولية الأولى، وإغاثة الشعوب المقهورة وبخاصة الفلسطينيين وتحقيق العدالة في بقعة غُيّبت عنها العدالة ولسنين طويلة!

العدد 1140 - 22/01/2025