وبضدّها تتميّز المواقف
مالك عجيب:
في واحدٍ من أبلغ أبياته وأعمقها معنى يقول أبو الطيّب المتنبي:
الضد يُظهرُ حسنَه الضد
وبضدّها تتميّز الأشياءُ
ولأن أوقات الأزمات والصراعات الكبرى تشكّل البيئة المثالية لتمظهر حالاتٍ واضحةٍ من التضاد، إذ تشيع مظاهر الاصطفاف والاستقطاب والتحزّب، حالات ما كان لها أن تطفو على سطح المشهد العام في أوقات السلم والرخاء، فكان من الطبيعي أن تطالعنا في الآونة الأخيرة العديد من المشاهد النموذجية لأضدادٍ أظهرت حسن أضدادٍ، ولأضدّاد أظهرتْ قبح أضداد.
المشهد الأول والأكثر مدعاةً للأسى تمثّل بذاك الهلام البشري الذي تهافتت ذرّاته من كل حدبٍ وصوبٍ لحضور حفلٍ غنائي أقيم على مرمى قذيفةٍ من ميدان تلك الملحمة الأسطورية المتواصلة منذ أكثر من عامٍ على أرض تلك البقعة الجرداء العزلاء من كل مقومات الحياة إلا الكرامة والتي تحمل اسم غزة، وعلى مرمى صاروخٍ من ميدان الفصل الآخر من الملحمة الذي تدور أحداثه في بقعة أخرى من بقع الكرامة العربية واسمها لبنان، ربما كان لهذا المشهد المخزي أن يمرّ دون الكثير من الأخذ والردّ كما سواه من المشاهد المشابهة التي يعجّ بها تاريخ هذا الصراع الطويل الأمد، لولا أن سوء طالع الضالعين فيه قد سلّط عليهم لسان أحد عتاة الدعاية الصهيونية الذي لم يتوانَ عن اقتناص هذا المشهد واستثمار رمزيته كأداةٍ للنيل من كرامة الأمة العربية عبر نبش التاريخ واستحضار قولٍ مأثور لواحدٍ من أشهر رموز حركات النضال العربي ضد الاستعمار الغربي، قول يتوعّد فيه المستعمرين بأجيالٍ من المقاومين الشرفاء الذين سيحملون راية مقاومة الاحتلال جيلاً بعد جيل، وما زاد وحل هذا المشهد قتامةً هو تزامنه تقريباً مع ذاك المشهد المضاد الذي طالعنا_ وياللخجل_ من العاصمة البلجيكية بروكسل، إنه مشهد تلك المظاهرة الحاشدة التي خرجتْ في عاصمة الاتحاد الأوربي دعماً لفلسطين ولبنان بمشاركةٍ واسعةٍ من قوى وهيئات ومنظماتٍ لا تمتّ لفلسطين ولبنان بصلةٍ سوى صلة التعاطف الإنساني والأخلاقي، فكان أن فاقم بهاء هذا المشهد من قبح المشهد الأول؟!
المشهد الثاني جاء بعد أيامٍ فقط وتمثّل بقيام إحدى القنوات التلفزيونية المشبوهة الانتماء والهوى بعرض تقريرٍ مشينٍ تضمّن تطاولاً على العديد من رموز حركات المقاومة ضد المشروعين الأمريكي والصهيوني في المنطقة، فكان أن جاءها الردّ اللائق عبر قيام حشودٍ من شرفاء شعب العراق العظيم باقتحام مكتب القناة في بغداد وإحراقه، ثم ما لبث المشهد المضاد أن جاء من بيروت الصامدة متمثّلاً بقيام طائرات العدو باستهداف مقرّ قناة الميادين الأصيلة الانتماء والهوى، بهدف إسكات صوت الحقيقة الذي أقضّ مضاجعهم ، وشتان ما بين قناةٍ ضاق بها العدو ذرعاً، وقناة تبرّأ منها الأقربون خجلاً، إن مجرد النظر إلى التباين بين خصوم هاتين القناتين كفيل بإرشاد من التبس عليه الأمر إلى الفارق بين الحق والباطل.
ثالث هذه المشاهد وأبلغها دلالةً سأورده بادئاً بالمشهد البهيّ والمتمثل بإعلان حكومة نيكاراغوا عن قطع علاقاتها بالكيان الصهيوني تضامناً مع فلسطين ولبنان، نعم نيكاراغوا، تلك الدولة التي أجزم بأن الكثير من أبناء أمتنا يكادون لا يعرفون موضعها على الخارطة، خاصةً أنها غير ذات باعٍ لا في كرة القدم، ولا في إقامة المهرجانات الفنية الباذخة، ولا حتى في منح الإقامات الذهبية، وأما المشهد الضدّ لهذا الموقف النيكاراغوي العروبي الأصيل فأترك للقارئ اللبيب حرية استنتاجه نظراً لتعدد الخيارات المناسبة في هذا الشأن.
هي مجموعة مشاهد تختزل مواقف بالغة الدلالة والرمزية من حيث ارتباطها بأحداثٍ مصيريةٍ قد تسفر عن إعادة رسم معالم المنطقة وربما العالم، إلا أنها على أهميتها تظل مجرد وقائع ثانوية مقارنة بالمشهد الأساس الذي لن ترسمه إلا فوهات بنادق هذا الجيل من المقاومين الذين عقدوا العزم على أن يكونوا عند حُسن ظنّ عمر المختار بهم.