جنوب لبنان.. أخر ما تبقى لنا في الصراع

د. نهلة الخطيب:

بعد مضي عام كامل على بدء عملية طوفان الأقصى التي هزت الكيان الصهيوني وحطمت ما تبقى من أسطورة القوة التي لا تقهر، جعلته بمواجهة وجودية، وأظهرت حجم الوحشية الإسرائيلية، وأكدت أن من الصعب زرع كيان والاعتراف به كدولة طبيعية تعيش في المنطقة. إسرائيل تحت ضغوط أزماتها وعجزها وخسارتها الاستراتيجية في غزة، وسعت رقعة الحرب ثأراً لهيبتها، وانتقلت إلى لبنان (التي منها سيبدأ تغيير الشرق الأوسط) في حرب لن تكون لأشهر بل لسنوات، آموس هوكشتاين الذي يخشى من المقاومة فيه قال مهدداً: (إن الهدنة في غزة لن تمتد تلقائياً إلى لبنان، والتصعيد أمر خطير، ولا شيء اسمه حرب محدودة).

ومع تواصل عمليات الاغتيالات والقصف الإسرائيلي على العديد من البلدات اللبنانية الجنوبية، وخروج الأهداف الإسرائيلية من منطقة الجنوب، إلى مناطق بعيدة عن الخط الأزرق بالعمق اللبناني، كما حصل في بعلبك والبقاع، لبنان تحول إلى غزة، فصرنا بغزة ولبنان، ولم نعد ندري ونحن في ذروة الهذيان السياسي، وربما الهذيان الوجودي، ما إذا كان مصيرنا مسألة دولية أم إقليمية، أم كلاهما معاً، فالتداعيات الغامضة لأحداث غزة ولبنان، والحراك الدولي لتجميد الوضع عند حدود معينة، بعد هستيريا الدم الإسرائيلية، لصياغة شرق أوسط جديد يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، يجعل الطريق نحو حرب شاملة يزداد اتساعاً، بعد فشل الجهود الدولية والإقليمية للوصول إلى هدنة، وحل لوقف القتل الجماعي، فأصبحت الحرب الشاملة مساراً إجبارياً لا مفر منه، حتى إذا كانت كل الأطراف لا تريدها.

لا رهان على أمريكا ولا على أوربا، أمريكا التي حشدت أساطيلها منذ اليوم الأول للحرب على غزة، هدفها توسيع الحرب وإشعالها، للحفاظ على أمن إسرائيل، وإعادة رسم خارطتها للمنطقة. لدمج اسرائيل (بشرق أوسط جديد) تطبيقا لنظرية برنارد لويس والهيمنة عليه اقتصادياً وأمنياً لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية وتحويل أموال الخليج إلى الأسواق الإسرائيلية المالية والمتجسد في الممر الاقتصادي الذي تم الاعلان عنه في قمة العشرين، والذي سيخلق اهتزازاً اقتصادياً قد يدمر اقتصادات ضخمة مثل الصين وأوربا المهتزة أصلاً بعد الحرب الأوكرانية ومخاوف اجتياح بوتين لأوربا الشرقية، وقطع الطريق على إمداد المحور الصيني الروسي الإيراني بالطاقة لدول أصبحت تسعى لإنهاء هيمنة القطب الواحد على الاقتصاد الدولي.

في تسعينيات القرن الماضي مع انطلاق عملية السلام، وبعد هجمات أيلول بدأت المخططات بالظهور والتنفيذ وانطلقت فكرة شرق أوسط جديد، سوقت لها كونداليزا رايس في الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 (إن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب)، والمقصود أن يصبح الشرق الأوسط الجديد منطقة تتألف بغالبيتها من دول ديمقراطية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية وإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، ودمج إسرائيل فيها بتشجيع عمليات التطبيع مع الدول العربية، ورعاية مشاريعها الجيواقتصادية للسيطرة، لتحكم الشرق الأوسط بأمر من الرب، البداية كانت بأفغانستان والعراق باستخدام القوة للإطاحة بأنظمتها. ثم تفكيك سورية ولبنان لتصبح ساحات غير مستقرة لأهميتها الجيوسياسية والتي قد تؤثر على دول الجوار والسياق الإقليمي.

مع بدء الحرب التدميرية الشاملة على غزة ظهرت الرؤية الإسرائيلية الأمريكية من جديد حول مفهوم الشرق الأوسط الجديد عندما توعد نتنياهو بتغييره، والذي يحاول تنفيذ مخطط إسرائيل القائم منذ عدة عقود والرامي إلى طرد الفلسطينيين، لا مكان لحل الدولتين مع إنجاز مشروع التطبيع مع البلدان العربية، يبدو أن فكرة بناء شرق أوسط جديد بدأت تتحول إلى واقع فالشرق الأوسط تغير بشكل كبير وشهد تحولات وأحداثاً مؤلمة وعنيفة، شرق أوسط جديد خارج من رحم صراعات كبرى ومناخ عالمي بالغ التعقيد، بنكهة إسرائيلية دون قوى معادية للاحتلال، ودول تهرول للتطبيع معه، شملت الخريطة التي أظهرها نتنياهو مناطق بلون أخضر داكن للدول المطبعة ومناطق بلون أزرق تضم الضفة الغربية كاملة وقطاع غزة تحمل كلمة إسرائيل، لم تشمل الخريطة أي ذكر لوجود دولة فلسطينية، بدأت تتحول إلى واقع على الأرض مع بدء سباق التطبيع العربي الذي بدأ بدولتين.

إذاً نحن على شفا حرب شاملة مع تزايد الاشتباكات والتصعيد وتحقيق توازن الرد، على الرغم من تصريحات رسمية داخلية وخارجية، أن حرباً واسعة ماتزال مستبعدة، مع زعم أمريكي وغربي لتطويق الحرب، منعاً للانزلاق إلى حرب لن تكون لصالحها في الشرق الأوسط، وحرصها على إبقائه هادئاً ومستقراً كمصدر للطاقة، وكمسرح استراتيجي لصراعهم مع القوى العظمى للهيمنة العالمية، وتقليص الحضور الروسي والصيني في المنطقة، من خلال مجموعة من الحروب والأزمات، والذي بدأت فعلاً من خلال زج روسيا في حرب طويلة في الشرق الأوروبي (أوكرانيا)، مروراً بالحرب في غزة والبحر الأحمر، واستفزاز إيران، والسيطرة على ممرات الملاحة الدولية، بعد أن أصبح تحدي الانتشار النووي الذي يبلغ ذروة خطورته في إيران من أكبر التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وصولاً إلى الشرق الآسيوي واستفزاز الصين، الخصم الاستراتيجي الأول لأمريكا، لإفشال خططها الاستراتيجية في إطار ممر الحزام والطريق الصيني، منطقة الشرق الأوسط تقع في وسط هذه التقاطعات كلها، فكان من الطبيعي أن تكون ساحة للصراع.

مصير لبنان والمنطقة على صفيح ساخن والنتائج كارثية لمثل هذه الحرب داخلياً وخارجياً، لبنان على حافة الانهيار الاقتصادي، والجمود السياسي والفراغ الحكومي المستمر منذ أكثر من عام ونصف، ليعمق التشققات البنيوية القابلة للانفجار، فالحرب الشاملة ستكون مدمرة على لبنان، ولكنها ستكون مدمرة على إسرائيل، لأنها فقدت مكانتها الردعية لمحيطها، بعد خوضها حرباً في منطقة صغيرة جداً، لم تحسمها، وتبقى تلك الشعلة في جنوب لبنان أخر ما تبقى لنا في الصراع، (ما يحمينا أن مقابل هيروشيما لبنانية.. هيروشيما إسرائيلية).

العدد 1140 - 22/01/2025