في الذكرى المئوية: الحزب الشيوعي السوري تاريخياً

محمد أنجيلة:

إلى من يرمون البئر بالحجارة كغُثاء السيل.. هذا هو تاريخنا!

أيامٌ معدودة تفصلنا عن عتبة التجاوز للذكرى المئوية، وفي الذاكرة شجون وشجون وعيون وحلم.. وما زلنا نحلم.

مئة عام بالتمام والكمال، سبقها سنوات من العناء والمتابعة، لترسيخ الهياكل، وما أصعبها!

لن تستطيع مقالة أن تغطي مساحة العمل السياسي الوطني لحزبٍ أشعل مئة شمعة، لذلك سنحاول أن نسلّط الضوء على بعض المفاصل الأساسية في نضال الحزب، وما رافقها من صعوبات وتحدّيات اعترضت مسيرته الطويلة.

 

الفترة الأولى

(١٩٢٤-١٩٤٦)

ارتبط تأسيس الحزب وظهوره في عام 1924، وترافق مع تَنامي حركة التحرر الوطني في سورية، ونخص هنا الثورة السورية الكبرى١٩٢٥ـ وإصدار الحزب بيانات ضد المحتل. وترافق وارتبط أيضاً بظهور الاتجاهات الأساسية في حركة التطور الاجتماعي السياسي والاقتصادي، وتأسيس النقابات العمالية، وبتأثير وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917.

 

 

كان تأسيس الحزب الشيوعي في بلادنا، إذاً، استجابةً لحاجات التطور الموضوعي والنضال الوطني التحرري والاجتماعي للشعب السوري، وليس صيغة فكرية انتقالية مستوردة، كما يروّج البعض.

أبرز شخصيات الحزب في بداية التأسيس كان ناصر حدّة، وأرتين مادويان. وتشكّلت أولى خلايا الحزب في دمشق ١٩٣٠ (فوزي الزعيم، وخالد بكداش، وعدد آخر من الرفاق).

كان فؤاد الشمالي أول أمينٍ عامّ للحزب.

سعى الحزب للعمل المشترك الوطني والتحالف مع أي قوة ضد العدو المشترك، وهو الاحتلال الفرنسي، فساهم بفعالية عام 1936 في خطة الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار.. إذْ كان لقرارات الأممية الشيوعية أهمية كبرى، فانتهج الحزب سياسة الجبهة المعادية للفاشية، وسياسة الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار، وقد جرى التعاون مع البرجوازية الوطنية الممثلة في ذلك الوقت بالكتلة الوطنية. دخل الحزب المعركة الوطنية من بابها الواسع دون تلكّؤ، بدعوته إلى اتحاد القوى المعادية للاحتلال الفرنسي.. ولم ينسَ ولم يُغفل معركة الدفاع عن عروبة لواء إسكندرون عام 1937، فقد تألفت لجنة عامة لتنظيم الدفاع الشعبي عن إسكندرون على مستوى البلاد، من القوى التالية: الحزب الشيوعي السوري، الشباب الوطني، عصبة العمل القومي، النادي العربي. ولعب الرفيق خالد بكداش (الأمين العام للحزب آنذاك) دوراً هاماً في تلك اللجنة، إذ برز دور الحزب متميزاً في إظهار حقّ سورية المشروع، وفي اللواء السليب.

حقيقةً وما أريد قوله وللتاريخ: سيبقى دور الحزب في هذه القضية الوطنية صفحة مشرقة في التاريخ الوطني للشيوعيين وللتاريخ النضالي السلمي السوري.

تابع الحزب نضاله الوطني عبر سياسته التي تهدف إلى جمع أكبر وأوسع قوى تحت شعار الجلاء التام للاحتلال الفرنسي دون قيد أو شرط، ووسع تعاونه مع البرجوازية الوطنية غير المترددة والرافضة للشروط الاستعمارية مقابل الجلاء، فشارك في فصائل الدرك التي كانت إحدى مؤسسات الدولة، وسقط الرفيق طيب شربك شهيداً في معركة الدفاع عن البرلمان، وانتزع الشعب السوري استقلاله الوطني عام 1946 حصيلة نضال وطني شاركت فيه كل مكونات الشعب السوري.

 

أخطاء الحزب

في تلك المرحلة

لن ننكر وجود أخطاء في تلك الفترة، وهذا شيء طبيعي لحزبً وجد نفسه في أتون معارك طبقية وسياسية ووطنية، من هذه الأخطاء دعوته لإقامة حكومة عمال وفلاحين في بداية الثلاثينيات، وهذا واقعياً غير ممكن. ورغم ما يقال عن تطرف هذا الشعار، إلا أنه يكشف الوجه الطبقي الواضح للحزب، باتجاه القوى العاملة والفاعلة في المجتمع السوري.

 

الفترة الثانية

(1946 _ 1970)

تابع الحزب سياسته الوطنية في خضمّ بحر متلاطم من الاحداث المتسارعة، ففي عام ١٩٤٨

هاجم متظاهرون، بعضهم ينتمي لتنظيم (الإخوان المسلمون) مكتب الحزب في ساحة عرنوس واستشهد الرفيق حسين عاقو وهو يدافع عن المكتب. وأحرق المتظاهرون المكتب دون نجدة من السلطات الحكومية وقتئذٍ.

تابع الحزب سياسته الوطنية، فأصدر البيانات المنددة بالديكتاتوريات العسكرية بعد الاستقلال، وتعرض أعضاؤه للملاحقة والاعتقال، لكنه تابع نضاله السياسي عبر تطبيق منهجية خطة الجبهة الوطنية، لكن بالمقابل لم يتخلّ عن نضاله المستقل والمتميّز في سبيل مطالب الفئات الكادحة. فكان ذلك ربطاً تناسبياً في العمل السياسي ومتطلباته الراهنة آنذاك.

نجح الحزب في دخول البرلمان عام 1954 ممثلاً بالرفيق خالد بكداش، الذي نجح بأصوات عالية، وعبر انتخابات ديمقراطية. فأخذت الجبهة الوطنية أشكالاً أكثر تنظيماً (الحزب الشيوعي، حزب البعث، شخصيات برجوازية وطنية)، وسعى الحزب لترسيخ هذه الجبهة من القواعد، لكن الآخرين رفضوا هذا الاقتراح، واقتصر التعاون على البنى القيادية دون النزول للقواعد الحزبية، والأنكى من ذلك أن بعض قيادات تلك القوى أوصت بعدم الاختلاط مع الشيوعيين. نذكر هذه الوقائع لنبين حجم الألم والظلم الاجتماعي والمعنوي الذي تعرض له الشيوعيون، خاصة في المناطق والبيئات المحافِظة في ذلك الوقت. لكن الحزب تابع نضاله العام والمطلبي والعمالي في قواعده وصحافته العلنية في ذلك الوقت، ومن ذلك أن الحزب أصدر آنذاك جريدته العلنية (النور) عام ١٩٥٥، وكان رئيس تحريرها الشهيد فرج الله الحلو.

في عام 1956 وقع العدوان الثلاثي على مصر، فتألفت في سورية لجنة عليا للتجمع الوطني من ممثلي الأحزاب والهيئات المختلفة، ومن ممثلي الجيش العربي السوري، وكان ذلك تطبيقاً خلاقاً للإخاء بين الجيش والشعب. وسقط الضابط السوري جول جمال شهيداً في معركة صد العدوان على مصر.

 

حاولت القوى الرجعية وبعض القوى اليمينية الإيقاع بين أطراف اللجنة باختراع مؤامرة، للاستفراد بالسلطة، يقودها الشيوعيون. لكنها فشلت.

 

من ميزات هذه المرحلة

في فترة الخمسينيات استخلاص الدور الوطني للبرجوازية الوطنية في التعاون مع القوى الوطنية والتقدمية، وأهمية هذا التعاون الذي يصب في مصلحة الوطن. كما نستخلص أهمية انتخابات عام 1954 في ظل البرجوازية الوطنية، فقد كانت انتخابات ديمقراطية رائعة، نجح لـ(البعث) 17 نائباً، و3 قوميين، وشيوعي واحد. أيضاً برز التلاحم الوطني في الانتخابات التكميلية لشغل مقعد واحد عام١٩٥٧م. فتنافس مرشح القوى الوطنية والتقدمية رياض المالكي بمقابل مرشح (الإخوان المسلمين): المرشد مصطفى السباعي، الذي سقط سقوطاً مريعاً.

للتاريخ نذكّر بأن الحزب الشيوعي سحب آنذاك مرشحه الدكتور مصطفى أمين، لصالح رياض المالكي شقيق الشهيد عدنان المالكي، وكان هذا درساً وجدانياً أخلاقياً في طرائق العمل السياسي.

وفي عام 1958 اتحدت سورية ومصر، ونحنا هنا لسنا بصدد نكء الجراح، ولا استحضار الماضي وشجونه، لكن ما حدث في فترة الوحدة وبعد سقوطها ترك آثاراً مدمرة على مجمل العمل السياسي الوطني والقومي، لا تزال تبعاته حتى هذه اللحظة. ودفع الحزب أثماناً باهظة من كادراته، فسقط خمسة شهداء، على ما أعتقد، واعتُقل مئات الشيوعيين وربما الآلاف سُجنوا في معتقلات سلطات الوحدة.

بعد انهيار الوحدة وفي أواسط الستينيات، تحت ضغط حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي والتأميمات الكبرى، تحول الحزب من شعار الجبهة الوطنية إلى شعار الجبهة الوطنية التقدمية.. وقد بدأ تعاون أولي وابتدائي بين الحزب الشيوعي وحزب البعث داخل الحكم وخارجه منذ عام 1966، فكان سميح عطية أول وزير شيوعي في حكومة سورية، عام 1966.

سعى الحزب في هذه الفترة لترميم منظماته بعد فترة عصيبة. فالظلال السلبية في فترة الوحدة (1958_ 1961)، تركت ندوباً كثيرة.

 

الفترة الثالثة

(١٩٧٠-٢٠٠٠)

اتّسمت هذه الفترة التاريخية بسِمة التعاون في إطار الجبهة الوطنية التقدمية. وكان الحزب دخل في نقاش فكري حاد على أعتاب مؤتمره الثالث (1969)، أخذ من الوقت والتعب ما أخذ، لكنه خطا خطوة متقدمة في العمل السياسي الوطني المنتظم.. فقد أقر المؤتمر الثالث للحزب مقدمات وشروط التعاون التالية:

1- التعاون مع جميع القوى الوطنية والتقدمية داخل الحكم وخارجه.

2- إبراز وجه الحزب المستقل في القضايا المبدئية والمسائل السياسية الكبرى.

3- الدفاع عن مطالب الجماهير الشعبية الكادحة ومصالحها.

هنا نذكّر بأن الحزب رسخ الأساس الرئيسي التالي: التعاون على أساس العداء للإمبريالية والرجعية وحماية مصالح الوطن والمواطن.

انتقد الحزب الظاهرات السلبية التي برزت عند إقرار ميثاق الجبهة (1972) وتحفظ على بعض البنود، لكنه وقّع ميثاقها معتبراً أن توفير أجواء الثقة والتفاهم من خلال الممارسة العملية ستؤدي إلى نتائج إيجابية أعمق وأوسع، وسترخي بظلالها على مجمل العمل السياسي لأحزاب الجبهة ولمستقبل سورية بالعموم.. معتبراً الميثاق ككل ميثاقاً وطنياً يمكن البناء عليه في توسيع المشتركات وترك القضايا الخلافية للمستقبل.. وهنا نستطيع القوى إن الجبهة لعبت دوراً سياسياً هاماً خلال حرب تشرين عام 1973 التي قدم الحزب فيها أكثر من ثمانين شهيداً في هذه المعركة الوطنية الكبرى.

 

ميزات العلاقة السياسية الجبهوية للحزب

باعتقادي الخاص أن العلاقة مع القوى الأخرى في إطار الجبهة، خاصة مع حزب البعث الحاكم، تميزت عموماً بالتوافق غالباً، خاصة في القضايا السياسية الكبرى، والتأرجح أحياناً خاصة في القضايا الاقتصادية.. فالحزب انتقد دائماً بقوة، أسلوب التعامل مع القضايا الداخلية التي تمس حياة الشعب السوري، ولم يكتفِ بالنقد، بل قدم المبادرات والحلول، ولم يهمل موضوع الجبهة، بل قدم طروحات ورؤى وأوراق عمل لتحسين عمل الجبهة. من الواضح أن الحزب وضع وبشكل دائم مصلحة الشعب في المقدمة، فلم يراهن على ظهور إعلامي أو تسجيل موقف، لكنه أظهر موقفه الحازم في التصدي لسارقي قوت الشعب، وفي تعزيز دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي في حياة الناس، وفي إقرار القوانين العصرية وتوسيع الحريات الديمقراطية للقوى الوطنية المخلصة، والإفراج عن معتقلي الرأي.

 

صحيح أن الحزب لم يستطع أن يوفق بين شروطه الثلاثة دائماً، بسبب انعكاس الوقائع الحياتية اليومية وتقلبات الظروف السياسية ومستحقاتها، لكن ذلك لم يثنه عن تقييم مراحل التطور التي مرت على البلاد، واتخاذ ما يراه مناسباً من مواقف.. فلم يسع الحزب إلى التناحر في العمل السياسي الوطني العام، ولا إلى اصطفافات لحظية، بل تابع مساره النضالي الوطني السلمي، معتبراً منابع القوة لدى سورية تكمن في معاداة الإمبريالية والاستعمار، والتصدي لأعداء الوطن في الداخل والخارج، والعمل لتوحيد المسار السياسي الوطني للقوى الوطنية والتقدمية، وتعزيز أجواء الثقة بين أطرافها.. وانتقد ظاهرة الاحتكار السلبي للحزب الواحد، ودعا سابقاً ومايزال يدعو حالياً لتوسيع العمل المشترك الوطني لما فيه خير ومصلحة الوطن والشعب السوري.

 

الفترة الرابعة

(٢٠٠٠-٢٠١٠)

والعمل السياسي للحزب أثناء الأزمة الحالية

ربما كان أهم حدث في حياة الحزب، في هذه الفترة، هو إعادة إصدار جريدته العلنية (النور)، بعد غياب طويل، وكانت قد أوقفت عن الصدور أيام الوحدة..

تميّزت هذه الفترة بانتعاش الاقتصاد السوري عموماً، لكن الاستثمار العقاري توسع على حساب القطاعات الاقتصادية المنتجة، وتصاعدت الظاهرة السياحية. وبالمقابل كان هناك فرز طبقي تجلى بانهيار متصاعد للطبقة الوسطى، وانهيار صناعات حرفية وتقنية كثيرة لصالح المستوردات التركية، ونمو البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية، ووصول ممثليهم إلى مجلس الشعب، وبدأت علائم السياسة الليبرالية الجديدة في الاقتصاد بالتوسّع.

لطالما حذر حزبنا من هذه الانعكاسات السلبية لهذه السياسة على مناحي الحياة الإنسانية للمجتمع السوري. ووجه الحزب رسائله للقيادة المركزية للجبهة الوطنية، مُبدياً حرصه الشديد، ومطالِباً بالعدول عن هذه السياسة التي تقتص من حقوق العاملين بأجر. وللعلم فقد أفردت في العدد الماضي من جريدة (النور)_ (ص 8 و9 من العدد 1127، بتاريخ 9 تشرين الأول 2024)، مقالة خاصة عرضت فيه موقف الحزب خلال الأزمة في سورية، من بدايتها حتى الآن.

إن ما ذكرته هنا هو مرور سريع، ولا أدّعي أنني أغنيت الموضوع وأعطيته حقه، فذلك يحتاج إلى الكثير من الجهد والتعب والمراجع والباحثين المختصين.. إنها قراءة أولية بسيطة لتاريخ حزب عريق، ما زال جلّ همّه، كما كان دائماً، هو المصلحة الوطنية العليا، له ماله وعليه ما عليه، فتاريخ الحزب يحتاج إلى لجان بحثية متخصصة.

الآن يخطو الحزب نحو مؤتمره الرابع عشر مجدِّداً ومؤكّداً موقفه الوطني والطبقي، واعتماد ما يراه في مصلحة الوطن والمواطن.

 

المصادر: جريدة  (نضال الشعب)، العدد 170 عام 1974. والعدد 178 عام 1975م

العدد 1140 - 22/01/2025