أعناب سورية بين الحرب والتغيُّر المناخي
فادي إلياس نصار:
تنطوي قصة (سرير بنت الملك) الأثري الموجود في مدينة (بصرى الشام)، والذي دمرته (داعش) عن بكرة أبيه، على أسطورة مفادها أن أحد الملوك الأنباط (حكموا المنطقة في القرن الاول ميلادي)، لم يكن يؤمن بالموت، وكان أن تنبأت له العرافات بأن ابنته ستموت بالسمّ، فما كان منه إلا أن شيد لابنته سريراً فوق باب المدينة، ووضع لها خدماً وحشماً، بهدف إبعاد الموت عنها، و في أحد الايام طلبت الأميرة من جواريها إحضار عنقود من عنبِ بصرى الأسود، وما إن مدت يدها إليه حتى لدغتها عقرب صغيرة جداً، من داخل العنقود، فماتت في الحال.
كروم العنب السورية
يعدّ العنب من عائلة التوتيات، وتعتبر منطقة حوض البحر المتوسط الموطن الأصلي له، إذ تعود زراعته في سورية إلى نحو خمسة آلاف سنة، وهي من الدول المنتجة للعنب، وقد احتلت حتى فترة ما بعد الحرب بقليل المرتبة الثالثة عربياً في الإنتاج (بعد مصر والمغرب)، والمرتبة الـــ 28 عالمياً (يبلغ الإنتاج العالمي من العنب سنوياً حوالي 80 مليون طن متري). وينتشر في كروم سورية ما يقرب من مئة صنف من العنب (تصل نسبة العنب الحلواني الى 30 في المئة من كمية الإنتاج الكلي، فالبلدي بنسبة 20 في المئة، وكذلك العنب السلطي بالنسبة المئوية نفسها، ومن ثم تليه كمية العنب الزيني بنسبة 15 في المئة، و15 في المئة للأعناب النادرة والمهجنة، وبذلك تعتبر سورية من أغنى بلدان الوطن العربي تنوعاً بالأصناف المزروعة.
وفي هذا المقال سنتناول العنب السوري في منطقتين (رغم غنى كل المساحة السورية بالكروم)، إحداهما كانت صاحبة ألذ أعناب العالم، والثانية تُعتبر في يومنا هذا هي الأغنى من حيث الإنتاج.
القلمون.. عنقود العالم القديم
تعود أصل كلمة (قلمون) إلى اليونانية وتعني (جبل الحلو)، وذلك يعود لانتشار أشجار التين وكروم العنب فيها، فتربتها الرملية مالحة، تمنع انتشار الأمراض، ومناخها مناسب يساعد على نضوج العنب (الهواء بارد والفرق الكبير في درجات الحرارة بين النهار والليل).
وتتركز زراعة العنب في منطقة القلمون، في مدن دير عطية، والنبك وقارة، وتُقدر المساحات المزروعة بالعنب في المنطقة بحوالي 400 هكتار، ويبلغ عدد الأشجار حوالي 250 ألف شجرة (كانت هناك أكثر من مليون شجرة عنب في العصر الروماني)، يتصدرها العنب (الدوماني) الأحمر المتميز بحلاوته وجلده القاسي.
وفي العهد الروماني، سُمّي خمر القلمون، بـ (خمر الملوك)، لسلاسة مذاقه وذكاء رائحته، وكان يُشحن إلى روما، وعلى الرغم من اشتهار بلدة دير عطية بوجود خمسة معاصر ( أثرية) للدبس، وصناعة ( قمر الدين) اللذيذ جداً، و وجود معاصر أخرى للعنب، في بلدات يبرود وتلفيتا ومعربا، تعود الى العصر الروماني، إلا أن بلدة (حلبون)، وهي تقع بين جبال القلمون الغربي، تفوقها جميعها شهرة تاريخية، وذلك بخمرها الملكي اللذيذ والذي كان حكراً على الطبقة الحاكمة، ومحرماً على عامة الشعب، وهو من الشهرة لدرجة أن (حلبون) ذُكرت وخمرها، في العهد القديم، وتحديداً في الإصحاح السابع والعشرين، من (سفر حزقيال) إذ يقول: (دمشق تاجرتك بكثرة صنائعك، وكثرة كل غنى بخمر حلبون والصوف الأبيض).
أعناب بصرى
تُعدّ (بصرى الشام) من أقدم المدن في منطقة الشرق الأوسط، فقد ذكرها (تحوتمس الثالث) في قوائمه، كذلك ذكرها (أخناتون: في القرن الرابع عشر قبل الميلاد). وتقع أراضيها في أحضان سهل حوران حيث المناخ جبليّ: بارد شتاءً، ومعتدل منعش صيفاً، السهل الذي يشتهر بزراعة العنب بصنفيه (الحلواني)، والبلدي (الزيني)، على شكل معرّشات، ويتميز عنب سهل حوران بنوعيته الجيدة، وشكل العنقود النظامي، ولونه الأحمر الوردي أو الأسود، وحجم حبّاته المتراصة الكبير، ونضوجها (ويعود ذلك الى درجة السطوع الشمسي في فترة نضوج العنب)، ويصل وزن العنقود الواحد أحياناً إلى تسعة كيلو غرامات، وهناك أيضاً، العنب البلدي الزيني، لونه أبيض مائل إلى الأصفر، وحبّاته متطاولة وعنقوده نظامي جداً.
من الأنباط الى داعش
خضع سهل حوران (بصرى) خلال القرن الأول الميلادي (الفترة الذي ماتت فيها بنت الملك السابق الذكر أعلاه)، لحكم الأنباط (أصدقاء البيئة) الذين جدّروا سفوح الجبال، ذات الانحدارات الشديدة للحفاظ على التربة من الانجراف وهو ما يعرف اليوم بــ (الزراعة الكنتورية)، هذا عدا أنهم قدموا واحدة من أعظم إنجازات الحضارة الإنسانية، في تقنيات هندسة الري، فكانوا محترفين في (الحصاد المائي) مقدمين بذلك نموذجاً مبكراً في إدارة المياه، تلك شعوب حفرت الأنفاق والآبار وشقت الترع، وبنت السدود، إضافة الى إبداعها في زراعة الكروم.
في المقابل، اليوم، لم توفر المجموعات الإرهابية (داعش وأخواتها) أية وسيلة لتدمير كل ما يمت لزراعة العنب بصلة، ابتداءً من تخريب قنوات الري، مروراً بإغلاق المعاصر وتكسيرها بحجة أنها مصانع المُنكَر، وصولاً إلى تكسير اللقى من جرار وأدوات صناعة وحفظ النبيذ، أثناء غَزوِهم للمتاحف، على امتداد البلاد السورية، والهدف واضح ألا وهو قطع أحد شرايين الاقتصاد السوري، ومحو أي أثر للحضارات التي مرت على سورية، وذلك خدمة للكيان الصهيوني.
كوارث التغيير المناخي!
إن انبعاث الغازات الضارة بالبيئة وخصوصاً ثاني أوكسيد الكربون، هو السبب الرئيس لارتفاع درجة حرارة الأرض، وما ينجم عن ذلك من كوارث طبيعيّة كالجفاف، وهطول الأمطار في غير موسمها، وتلوث مياه الري السطحية والجوفية وندرتها (الري المنتظم يُشكل أهمية كبيرة في تجنب تشقق ثمار العنب) وارتفاع درجات الحرارة (الحرارة الشديد تؤثر في جودة العنب)، إضافة إلى ظهور آفات وحشرات جديدة، كلها عوامل تُسرع عملية اختفاء أنواع تقليدية من الأعناب المنتشرة في منطقة البحر المتوسط، عموماً و في سورية خصوصاً.
الزراعة الحديثة
معظم مزارع العنب الحديثة، رغم قلّتها، هي مساحات مستصلحة حديثاً وتروى بنظام التنقيط، فقد تبين أن هذه النُظم تزيد من متوسط الإنتاج، بل تضاعفه، ففي حين أن متوسط إنتاج الدونم الواحد من العنب المزروع بالطرق القديمة كان لا يصل إلى طن واحد، وكان يقل أحياناً إلى ما دون نصف طنّ سنوياً، فقد وصل متوسط إنتاج الدونم من العنب المزروع بالطرق الجديدة إلى طنّين اثنين وأكثر.
جهود حثيثة
أجرت الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، في فترة ما قبل الحرب، عملية انتقاء للأصناف العالمية المرغوبة والجيدة وعممتها على مزارعي الكرمة، وأنشأت حقول أمهات للأصناف المزروعة مع الأصول الملائمة لها بغية إنتاج الغراس، كما استنبطت أنواعاً جديدة، وذلك من خلال التهجين بين أصناف سورية وعالمية مثل دايتي دي بيريوت (فرنسي) والأفرزلي (تركي) والبولقار (روماني). وقد وصل الإنتاج السنوي، حينذاك (قبل الحرب) إلى 900 ألف طن، وبسبب ظروف الحرب قام المزارعون بالاستعاضة عن كروم العنب بأنواع أخرى ذات مردود اقتصادي أعلى كالزيتون والتفاح، والقمح وغيرها.
وقد قدرت وزارة الزراعة إنتاج العنب في سورية، لموسم 2023 بـ 195 ألف طن، وقد احتلت محافظة السويداء المرتبة الأولى بالإنتاج بكمية بحوالي 48 ألف طن، تلتها حمص بإنتاج 44 ألف طن.
ثمالة القول
تسعى الحكومات، في كل دول العالم، بكل كوادرها ومختصيها، إلى استغلال كل شبر من الأرض، سواء في الجبال والسهول (زراعة الورد في هولندا)، السفوح أو الوديان (زراعة الشاي (الأولونغ) في سفوح فيتنام)، وحتى في الصحاري (التجربة الصينية- مقاطعة منغوليا)، وذلك بحثاً عن مصدر جديد مستدام يدعم الاقتصاد الوطني، ويُنمي المجتمع، فهل ستُشعل حكومتنا الجديدة، شمعة (العنب) في الريف السوري، وتُعيد الحياة لآلاف الهكتارات التي دمرتها قوى الحرب، وبعدها الحطابون والفحامون؟ أم ستبقى تلعن الظلام إلى أبد الآبدين!؟