فكّ ارتباط الجبهتين.. والقرار 1701.. والرئاسة

د. أحمد ديركي:

مرّ عامٌ على عملية (طوفان الأقصى). عملية مقاومة بطولية قام بها فريق من الشعب الفلسطيني المقاوم للاحتلال الصهيوني. والمقاومة هنا حق مشروع ضد الاحتلال، مشروع في كلّ القوانين الدولية وحتى ما قبل ظهور هذه القوانين الدولية، فمنذ بدأ وعي الإنسان يتطور وبدأ تشكّل مفهوم الحرية، كانت مقاومة المحتل وما زالت تُعتبر أمراً محتوماً ومشروعاً.

لا يتوقف الفعل المقاوم للاحتلال عند العمل العسكري، بل يتعداه إلى كلّ صيغ المقاومة. يحق لكل من يقع تحت الاحتلال أن يقاومه بكلّ الأشكال. الشعب الفلسطيني بدأ، منذ محاولة تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وما زال يقاوم هذا الكيان المصطنع وغير الشرعي، مقاومة دعمتها كل الشعوب العربية، وبداية الأنظمة. إلا أن الأنظمة فيما بعد تخلّت عن القضية واستكانت للحلول (القانونية) غير المجدية، لأن هذه القوانين الدولية جرت صياغتها لتكريس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

استكمل الشعبان الفلسطيني واللبناني مقاومة الكيان الصهيوني متسلحين بأحقية القضية الفلسطينية، وبقيت القضية الفلسطينية بوصلة النضال. تغيرت أشكال المقاومة في فلسطين وفي لبنان، وخلفياتها الأيديولوجية، وفقاً لموازين القوى العالمية. وها نحن اليوم نعيش في زمن احادية القطبية العالمية. قطب بنمط إنتاج رأسمالي، يحكم العالم، يعمل على تصنيع الكيان الصهيوني ليكون رأس حربة الإمبريالية في المنطقة، ويرسم بواسطتها ما يعرف بـ(شرق أوسط جديد).

قطب قال علانية إن اتفاقية سايكس – بيكو قد انتهى مفعولها، وعلينا إعادة رسم خريطة المنطقة. خريطة تقوم على تقسيم بلاد العالم العربي إلى دويلات صغيرة متناحرة على أسس طائفية، أو أثنية، وتعتمد في بقائها بشكل كلي على المستعمِر (بكسر الميم). دويلات متناحرة ومستعمِرٌ يستغل ثرواتها وينهبها.

كي يُستكمل المشروع، مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، لا بد للقضية الفلسطينة أن تنتهي بفوز الكيان الصهيوني وهيمنته على فلسطين، وتدمير أي فعل مقاوم للكيان باعتباره أول خطوة في صياغة (الشرق الأوسط الجديد).

ولا يتوقف الأمر عند هيمنة الكيان على فلسطين، فلِكَي يُكتب النجاح لهذا الرسم الجديد للمنطقة، لا بد من أن يترافق مع تفكيك أو إخضاع الدول العربية في المنطقة، فكان (كامب دايفيد)، بداية الطريق. اتفاقية تطبيع مع الكيان عزل مصر عن الصراع الكيان وحولها إلى تابع مهيمن عليه يعمل لمصلحته. وكرت سبحة التطبيع وصولاً إلى معظم دول الخليج العربي، التي هي أصلاً مطبّعة مع الكيان الصهيوني قبل إعلان التطبيع. فدول الخليج العربي، مركز معظم مصادر النفط العالمي، قواعد أمريكية تعمل وفقاً لما تمليه عليها أوامر هذه القواعد. لذا منذ نشوئها، وبخاصّة بعد اغتيال الملك فيصل، تدعم دول الخليج الكيان الصهيوني، بطرق غير مباشرة، والآن أصبحت مباشرة، كي يكرس الكيان الصهيوني استعماره لأرض فلسطين ويستبيح قتل شعبها بأسلحة أمريكية – أوربية الصنع تُشترى بأموال نفط الخليج.

بعد كامب ديفيد، وأوسلو، والتطبيع مع الأردن، وغزو العراق مباشرة من قبل الاستعمار الأمريكي وتفتيته إلى دويلات متناحرة طائفياً وعرقياً، وإثنياً، ثم تقسيم السودان والحرب فيه، وليبيا التي أصبحت دويلات طائفية متناحرة، وسورية.. ولبنان الذي هو أصلاً عبارة عن مجموعة طوائف متناحرة بسلطة سياسية طائفية تغذي التناحرات الطائفية.. ضاعت القضية الفلسطينة في خضم كل هذه الفوضى المنظمة الهادفة إلى تشكيل الشرق الأوسط الجديد. بضياعها جرى الاستفراد بالدول العربية المشرذمة، المنهكة، القبلية الجوهر ديمقراطية المظهر، فهرولت من أجل الالتحاق بنمط الإنتاج الرأسمالي بغض النظر عن الثمن. وشعوب عربية التهمها الفقر والأمية وهيمنة الفكر الديني عليها، بعد أن قتلت أنظمته الأحزاب السياسية، وبخاصة اليسارية حاملة المشاريع التحررية، على الرغم من كل هذا بقي الشعب الفلسطيني يقاوم وكذلك الشعب اللبناني.

فكان عدوان 2006 على لبنان، وتحديداً الضاحية الجنوبية، على اعتبار أنها مركز المقاومة بصيغتها الراهنة، إضافة إلى مقاومة الحزب الشيوعي اللبناني، على الرغم من كلّ إمكانياته الضئيلة بسبب محاولات القضاء عليه، دليل على أن الحزب الشيوعي اللبناني ما زال مقاوماً وسيبقى مقاوماً، رغم تغير موازين القوى العالمية والإقليمية، والمحلية. عدوان هدف لإعلان (مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد). وهذا ما قالته بالحرف كونداليسا رايس في زيارتها للبنان خلال ذلك العدوان (إننا نشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد). (شرق أوسط جديد) لا وجود فيه لأي شكل مقاوم للكيان الصهيوني، والتطبيع معه لاستكمال رسم خريطته.

فكانت، وما زالت، عملية (طوفان الأقصى)، لعرقلة هذا المشروع المحمول من قبل الكيان الصهيوني والمدعوم عالمياً. جن جنون الكيان، فأخذ يرتكب أبشع مجازره ضد الإنسانية. مجازر يفوق توصيفها عن أي توصيف عرفه تاريخ البشرية، تخطت وحشية هذا الكيان مجازر النازية والفاشية، في العصر الحديث، كما تخطت مجازر كلّ مراحل التاريخ.

كل هذه الجرائم ترتكب والعالم برمته لا يقوم بفعل أي شيء لوقف هذه الجرائم، بل يبرر له! من الصين الصامتة عن هذه المجازر وصولاً إلى أوربا والولايات المتحدة الداعمة لهذا الكيان المتوحش، وكذلك الأمم المتحدة بكلّ تفرعاتها. بعد أن دمر غزة وقتل أطفالها ونساءها وشيوخها بدم بارد والعالم يدعمه بفعلته هذه، ها هو ذا يستكمل وحشيته ضد مقاومة لبنان، مستخدماً أسلحة محرمة دولياً، يقصف المباني السكنية، وسيارات الإسعاف والإطفاء والمستشفيات.. يغتال من يشاء وأينما وُجدوا في لبنان، يدمر قرى ومدناً ويهجّر سكانها.. يقصف بيروت، وهي عاصمة عربية، والدول العربية تشاهد، والمشاهدة تعبير عن دعم غير مباشر، ودول عربية تزوده بالأموال لاستكمال وحشيته، كل هذا من أجل استرضاء الالتحاق بنمط الإنتاج الرأسمالي. كيان ينتهك كل القوانين الدولية، والأخلاق الإنسانية، والعالم يصفق له، ولا يتوقف عند حدود إجرامية بل ينتهك عواصم عربية أخرى ويغتصب جزءاً من أرضها ويغتال فيها من يشاء ويقصف أينما يشاء ويقتل أبرياء.. وأقصى ما يفعله حُكّام هذه العواصم: إصدار بيان استنكاري!

المضحك أن هذه الدول المنتهكة من قبل هذا الكيان تعاود قول العودة إلى القوانين الدولية، وهي تعلم تمام العلم أن هذه القوانين والمؤسسات الدولية في خدمة تنفيذ المشروع الاستعماري والتفتيتي للمنطقة بأدواتها المباشرة التي يعبّر عنها الكيان الصهيوني!

حالياً قصف وحشي يومي بأسلحة محرمة دولياً للضاحية الجنوبية وهي تقع في قلب العاصمة اللبنانية، والبقاع والجنوب، واغتيالات في قلب بيروت. تقتل المدنيين الأبرياء وتدمر أحياء بأكملها، محولة هذه الأحياء إلى أكوام من الركام، والنظام السياسي اللبناني يتلهّى بانتخاب رئيس أو عدم انتخاب رئيس! يتلهّى بفصل الجبهتين أو عدم فصلهما! طبعاً مع إرسال لبنان رسائل الشكر للإمارات المطبّعة مع الكيان، وغيرها من الدول، لأنها أرسلت طائرة مساعدات. وعادت نغمة طرح تطبيق القرار 1701.

القرار 1701 قرار أممي لخدمة الاحتلال الصهيوني وتأمين حدوده. فماذا ورد في هذا القرار؟

صدر القرار بتاريخ 11 آب 2006، معتمداً على مجموعة من القرارات السابقة والصادرة عن الأمم المتحدة. قرار يساوي بين لبنان المحتلة أرضه وتستمر الاعتداءات اليومية عليه، الذي يحق له قانونياً أن يقاوم الاحتلال ويحرر أرضه، ما دمنا نتحدث عن قرارات الأمم المتحدة، من جهة،  ومن جهة ثانية الكيان الصهيوني، العضو غير القانوني في الأمم المتحدة، والمعتدي على أرض لبنان وشعبه ومقاومته!

انحياز وتأييد واضح لمصلحة الكيان الصهيوني، ويستكمل الانحياز بشكل فاضح مع استكمال القرار، إذ يقول القرار

وإذ يعرب عن بالغ قلقه إزاء استمرار تصعيد الأعمال القتالية في لبنان وفي إسرائيل منذ هجوم حزب الله على إسرائيل في ١٢ تموز/يوليه ٢٠٠٦، والتي تسببت حتى الآن في وقوع مئات من القتلى والجرحى على كلا الجانبين، وإلحاق أضرار جسيمة بالهياكل الأساسية المدنية وتشريد مئات الآلاف في الداخل.

جملة تدل على أن لبنان هو المعتدي على الكيان، على اعتبار أن حزب الله حزب لبناني، من دون أي ذكر فعل احتلالي للكيان الصهيوني لأراض لبنانية وحق لبنان، دولة وأحزاباً، أن يقاوم الاحتلال. فالاعتداء، وفقاً للقرار استهلّه حزب الله لا الكيان! مسكين هذا الكيان المسالم فهو لا يحتل أراضي عربية ولا أرض فلسطين ولا يرتكب المجازر ولا يتوسع ولا ينتهك سيادة دول عربية ولا… القرار يضع اللوم على مقاومة الاحتلال، وهذا ما يتناقض مع القوانين الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة. ها هي ذي الأمم المتحدة بقراراتها تناقض ذاتها بذاتها لتسهل للكيان الصهيوني مهمته. فمن شرّد آلاف الأبرياء وهدم المدن وقتل المدنيين بغاراته الجوية مستخدماً الأسلحة المحرمة دولياً هو الكيان الصهيوني، وجل ما قام به حزب الله هو مقاومة المحتل. قرار يشير إلى أن المقاوم للاحتلال والمحتل متساويان، ويحق للمحتل أن يستكمل احتلاله بالقوة.

والحل المقترح لهذا (النزاع)، والموافق عليه من قبل السلطة اللبنانية، بالتأكيد يجب أن يكون متوافقاً مع مصلحة الكيان الصهيوني. فها هو ذا الحل المقترح كما ورد في القرار:

تنشر قوة مسلحة لبنانية مؤلفة من 15 ألف جندي في جنوب لبنان مع انسحاب الجيش الإسرائيلي خلف الخط الأزرق وأن تطلب مساعدة قوات إضافية من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان حسب الضرورة…

بداية القرار يناقض نفسه بنفسه: فهو يقول (مع انسحاب الجيش الإسرائيلي خلف الخط الأزرق…)، أي أن جيش الاحتلال الصهيوني موجود على أرض لبنان، وبهذا فهو المعتدي. ثانياً تحديد العدد، وإن كان من الجيش اللبناني، أمر يخرق سيادة لبنان، إذ على لبنان أن يقرر العدد وفقاً للظروف على اعتبار أن الكيان الصهيوني أول من يخرق القوانين الدولية وهو أول المعتدين. أي أن عدد جنود الجيش يجب أن تكون كافية للتصدي لأي اعتداء صهيوني، لكن يبدو أن العدد ليس لصد الاعتداءات الصهيونية، بل لغاية أخرى!

والأخطر ما ورد في الفقرة 8 فأحد بنودها ينص على:

  • اتخاذ ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية، بما في ذلك إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، وفق ما أذنت به الفقرة ١١، وينشر في هذه المنطقة

على الدولة اللبنانية أن تأخذ الترتيبات الأمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية. هذه ليست أعمالاً قتالية بل هي أعمال مقاومة لتحرير أرض من معتد ومحتل. فقد حول القرار مقاومة المحتل إلى أفعال قتالية يجب إيقافها! وبعد إيقاف هذه (الأعمال القتالية) المتأتية من الجانب اللبناني حصراً، وفقاً للقرار، يجب على القوة اللبنانية أن تؤمن منطقة عازلة آمنة لحدود الكيان من الخط الأزرق وصولاً إلى نهر الليطاني! وتأمين هذه المنطقة العازلة الآمنة تكون من مهمة القوة اللبنانية واليونيفيل من خلال نزع كل سلاح مقاوم فيها! أي إشراك الجيش اللبناني واليونيفيل في ضرب أي مقاومة للاحتلال، وتشريع احتلاله!

هذا جزء من القرار 1701 الصادر عن الأمم المتحدة لمصلحة الكيان الصهيوني بموافقة الدولة اللبنانية بكلّ أطيافها. وها هي ذي اليوم تعاود الدعوة إلى تطبيق هذا القرار الخياني، ولا يمكن ان يطبق إلا بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وفك الارتباط بين جبهة فلسطين المقاومة وجبهة إسنادها من قبل مقاومة لبنان. لذا عادت الدعوة مجدداً إلى انتخاب رئيس جمهورية! لكن الكيان الصهيوني لا يود تطبيق هذا القرار الدولي بل يريد إضافة تعديلات عليه يخدم مصلحته بشكل أكبر! طبعاً حالياً الكيان لا يريد أي نوع من أنواع وقف إطلاق نار، بل يريد أن يستكمل قصفه الوحشي بدعم عالمي وأموال خليجية وأسلحة أوربية وأمريكية حتى يستهل تطبيق مشروع الشرق الأوسط الكبير بأقل مقاومة ممكنة. من بعد ذلك يفكر بصياغة قرار دولي يعطيه شرعية أكبر في ارتكاب جرائمه الوحشية.

العدد 1140 - 22/01/2025