الحروب.. أبواب مُشرّعة لزيادة فقر الأفراد والحكومات

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن الحروب عبر التاريخ قد ساهمت وما زالت في تخريب البنى المجتمعية والأمنية والاقتصادية للبلدان التي تنشُب فيها، إذ تتفاقم مختلف أشكال الأزمات الاقتصادية بسبب تدمير المنشآت الصناعية، وكذا القطاع الزراعي حيث تكون بعض المناطق الزراعية مرتعاً للعمليات العسكرية التي تأتي على اخضرارها وعطائها. إضافة إلى الشلل الذي يُصيب حركة التجارة الداخلية والخارجية، وكل أشكال النشاط البشري في مناطق الحروب. وهذا ما يُعزّز حالات الجوع والفقر المنتشرة أصلاً في هذه البلدان، والذي يدفع باتجاه تفاقم مظاهر العنف المؤدي لارتفاع نسب الجرائم على مختلف المستويات، ولدى مختلف الطبقات الاجتماعية وحتى السياسية أحياناً.

معلوم تماماً أن الفقر يُشكّل أحد أهم مُعيقات التطور والتقدّم والرخاء على مستوى الأفراد والحكومات. ذلك أنه يشتمل في معناه الواسع على أنواع مختلفة تعمل جميعها على كبح السير باتجاه الحياة اللائقة لأي إنسان، وهذا ما يُشكل انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، إذ يتعدى هذا إلى ظهور أنواع أخرى من الفقر غير المرئي والتي تؤثّر إلى حدٍّ كبير على تطور الفرد والمجتمع كالفقر المعرفي، العلمي، الروحي، الأخلاقي، والمادي… الخ. لكن أكثر ما يُعيق حياة الإنسان عن باقي أنواع الفقر المذكورة أعلاه، هو الفقر المادي والعوز وشحّ الإمكانات اللازمة للعيش في أبسط أشكال البقاء على قيد الحياة والذي يُنتج باقي أنواع الفقر الأخرى.

ولعلّ أسباب هذا الفقر والمنتشر في كل المجتمعات البشرية، مُتعدّدة ومتنوّعة وتعود لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.

فالأسباب الذاتية تتجلّى بالفقر المتوارث عن الآباء أو البيئات دون محاولة لتغيير هذا الواقع إن أمكن ذلك، أو لعدم توافر فرص العمل والسياسات الحكومية المُساعدة على تخطّي هذا الفقر.

أمّا الظروف الموضوعية، فتتجلّى بكل ما هو خارج عن قدرة الفرد لتخطي فقره، وبالتالي هي أسباب تتعلّق أولاً بالموارد والثروات الطبيعية المتوافرة لدى الدولة، ومن ثمّ بآلية عمل الحكومات في استثمار تلك الموارد بالشكل الأمثل، وتوزيع عوائدها على عموم المواطنين الذين لهم الحق في تلك الموارد حسبما ينص الدستور، إضافة إلى وضع الاستراتيجيات والخطط قريبة أو بعيدة المدى لتحسين معيشة مواطنيها من خلال توفير فرص العمل، أو المساعدة على إيجاد تلك فرص من خلال القروض أو المِنح التي تؤسّس لمشاريع فردية أو جماعية، ذلك أن معالجة الفقر تتطلَّب تغيير أنماط الاقتصاد وتنويع الاستثمارات والقيام بمشروعات إنتاجية لإيجاد فرص عمل للقضاء على مشكلة البطالة.

واضحٌ تماماً بما لا يدع مجالاً للشك، أن الفقر مرتبطٌ أساساً بتوافر المناخ الآمن والمُستقر لأي نشاط بشري، إضافة إلى توافر المال الضروري لتأمين كل ما يُبعد الإنسان عن العوز والارتهان لإرادة الآخرين الذين يستغلون تلك الحاجة. فوجود ما يكفي منه يساهم في تحرير الإنسان من ضغوطات الحياة، ويساهم بازدياد القدرة لديه للتحكّم بمقدراته ومصيره، وبالتالي المشاركة الفعّالة في كل مناحي الحياة.

وإذا ما نظرنا إلى واقع العديد من دول العالم، نجد أن حوالي ثلثي البشرية تقع في خانة الفقر، وقسم كبير منها يقع ما دون خط الفقر بالنسب المُحددة عالمياً، وهذا يُشير إلى سوء توزيع الموارد والخيرات على الناس وإشاعة مبدأ العدالة الاجتماعية، وقبل هذا يُشير إلى أن الحكومات المعنية بهذا التوزيع وبتحسين أحوال ومعيشة مواطنيها بعيدة كل البُعد عن مهامها الأساسية تلك، ومنغمسة إلى أبعد الحدود بأهدافها الشخصية المتمثّلة باستغلال نفوذها وسلطتها عبر فساد يزيد من حدّة الفقر ويُعيق ارتقاء الفرد والدولة معاً، وبالتالي فتح الأبواب على مصراعيها إمّا للمساعدات الخارجية المشروطة بشروط تحدُّ من السيادة الوطنية، أو الوقوع تحت سنابك خيول الدول الغنية والتي تعمل على تعزيز مواردها وقدراتها على حساب الفقراء إمّا بإشعال الحروب كالتي نشهدها اليوم، أو النهب المنظّم لخيرات البلاد ومواردها الطبيعية والبشرية، وهذا ما عاشه الشعب السوري وعانى منه منذ سنوات ما قبل الحرب وحتى اليوم، فقد كانت السياسات الاقتصادية التي اتُبِعت في سورية خلال العقود الأخيرة، قد ساهمت وبشكل مباشر وكبير بارتفاع نسب الفقر وتلاشي الطبقة الوسطى التي انزلق غالبيتها إلى الطبقات الدنيا الفقيرة، وحلّق جزء قليل منها إلى مستوىً من الثراء الفاحش بين ليلة وضحاها بحكم تفشّي الفساد والمحسوبيات وسواها، ممّا أضعف كيان المجتمع أخلاقياً وحضارياً، ومهّد الطريق أمام تفشي أمراضٍ اجتماعية خطيرة ساهمت في زعزعة الأمن والسلام الاجتماعي والأخلاقي. ذلك أن الحرب والبطالة التي عانى منها الشباب في العقود الماضية دفعتهم إمّا إلى الهجرة بحثاً عن عمل يليق بمؤهلاتهم وكرامتهم، وإمّا إلى متاهات المخدرات والدعارة والسرقة والانحراف بشكل عام بحثاً عمّا يُبقيهم على قيد الحياة حتى لو كان في الارتهان للغير والسير في طريق العنف والإرهاب اللذين يسيطران اليوم على حياة السوريين بلا استثناء. إذ بات جليّاً للعيان التحاق العديد من الشباب في صفوف المقاتلين الذين تُجنّدهم بعض الدول أو الأطراف المشاركة في المأساة السورية، وذلك بهدف الحصول على ما يمكنه تلبية احتياجات أُسرهم أو حتى تأمين مستقبل مقبول لأولئك الشباب.

ورغم كل ما ظهر وتبيّن عن مآلات البطالة والفقر في سورية، ما زالت الحكومات تُدير ظهرها لهذا الواقع وتتجاهله بطريقة مخزية ومُذهلة، فبدل أن تُخفّف من حدّة الفقر والبطالة عبر إجراءات إسعافية ضرورية في الحاضر المأساوي، تسعى أولاً إلى زيادة الضغط المعيشي على شرائح واسعة من المجتمع، عبر التخلي عن مسؤولياتها المنوطة بها، مقابل فتح الأبواب مشرّعة أمام مشيئة تجّار الحروب والأزمات وبعض الفاسدين في أجهزة ومؤسسات الدولة كي يتحكّموا كما يشاؤون بقوت الناس المستضعفين الذي باتوا يواجهون هذا الواقع خالي الوفاض من أي دعم أو سند حتى اللحظة رغم كل التبعات التي ألقت وتُلقي بها نُذر الحرب المحيطة بنا من كل حدبٍ وصوب!

العدد 1140 - 22/01/2025