ضبابية المصير جمعت غزة ولبنان في الحرب
د. نهلة الخطيب:
إسرائيل تحسب وبلا شك ذراعاً لتنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة وحماية لمصالحها الحيوية، فالدولتان تحتفظان بقدر كبير من التشابه في الأهداف الاستراتيجية العامة إقليمياً ودولياً، وإن كان هناك اختلاف في الأولويات والاهتمامات فإنه ينبع من اختلاف الرؤية والبيئة السياسية العامة، فالولايات المتحدة الأمريكية لها التزامات كونية كقوة عظمى ووحيدة في العالم، والأفق الإسرائيلي محصور في بيئة أكثر تحديداً ومسؤوليات أقل تنحصر ببقاء الدولة اليهودية وأمنها، ولم يحظ تأسيس دولة في التاريخ المعاصر باهتمام دولي كما حظيت إسرائيل، تم ترتيب المؤسسات الدولية واستغلال نتائج الحرب العالمية الثانية، وموازين القوى في فرض ترتيبات نجم عنها حقيقتان، الأولى تأسيس دولة على أنقاض دولة أخرى، والثانية حرمان شعب من ممارسة حقه في الاستقلال وبناء دولته. إسرائيل التي وُجدت بفضل المجتمع الدولي وجدت نفسها في محيط لا تنتمي إليه، وعزلة بسبب عدم تقبلها في الإقليم (الشرق الأوسط) الذي تعيش فيه.
واجهت إسرائيل منذ وجودها في المنطقة حرباً مفتوحة على الزمن ما دام الفلسطينيون عازمين على التحرير والحرية، وذلك الحلم بإقامة دولة إسرائيل من النهر إلى البحر قد تحطم تحت أقدام المقاومين في فلسطين وحلت الأسطورة الفلسطينية محل الأسطورة الإسرائيلية، ورغم أن الفلسطينيين يدفعون ثمناً باهظاً لتلك الحرب من كل النواحي، إلا أن إسرائيل خسرت كثيراً من صورتها كملاذ آمن لليهود، أكد أوستن ذلك منذ اليوم الأول للحرب في غزة (أن إسرائيل قد تكسب تكتيكياً، إلا أنها ستخسر استراتيجياً)، ولكن لا مجال لتوقف نتنياهو عن السياسات العمياء التي لا يمكن لأحد التكهن بها، يواصل الحرب على جبهتين غزة ولبنان، وبنغمة قوية صرح في الأمم المتحدة (لقد بدأنا التغيير في الشرق الأوسط)، ويسعى أبعد من ذلك (شرق أوسط جديد).
وكأن ساعة التغيير قد بدأت فعلاً، لبنان تحول إلى غزة ثانية في ظل توسيع رقعة العمليات العسكرية الإسرائيلية واستمرارها على مناطق مختلفة من لبنان، فالصورة بين لبنان وغزة بدأت تتشابه في كثير من ملامحها، أليست الأداة نفسها؟! أوامر إخلاء إسرائيلية ثم نزوح لأكثر من مليون نازح لبناني مقابلها مليون نازح في غزة، ضرب للمعابر رفح في غزة والمصنع الحدودي بين سورية ولبنان، إلا أن المتغير الوحيد هو عدد الضحايا ففي غزة قتل أكثر من 41 ألف وفي لبنان قتل ما يقارب 2000 شخص، إضافة إلى آلاف الجرحى، اغتيالات سياسية كانت نصراً مطلقاً لإسرائيل حسب الاعلام الإسرائيلي اغتيال السيد حسن نصرالله الذي ذهب فداءً لغزة، وغارات خلفت دماراً واسعاً غير مسبوق على الضاحية الجنوبية في بيروت يشبه الدمار في غزة، ضبابية المصير جمعت المدينتين في الحرب كما جمعتهما في مسار حل دبلوماسي يبدو شائكاً كمسار غزة التي بات مصيرها مرتبطاً بوقف إطلاق النار في لبنان.
كيف نتصور أنه ليس باستطاعة أمريكا الضغط على نتنياهو لوقف إطلاق النار وهو الذي ينفذ الاستراتيجية الأمريكية حول الشرق الأوسط الجديد، بفتح أبوب النار والدم لتغيير المسارات التاريخية والاستراتيجية، ويطوي دولاً وشعوباً أصيلة وريثة حضارة وتاريخ، خريطة الممر البحري الذي ينظف غزة من البشر ثم لبنان، والقادم أعظم وأبعد من ذلك، قد تبدو حرباً اقليمية ولكنها هي امتداد لحرب الطاقة والمعابر الدولية، وأين إسرائيل لو لم تعطها أمريكا مظلة عسكرية واسعة وللمرة الثانية لإحباط الهجمات الإيرانية عليها، الآن إسرائيل ماضية في تحقيق أهدافها في المنطقة وتستعد للرد على الرد الإيراني، إدارة بايدن لا تريد التصعيد في الشرق الأوسط وحتى اللحظة لم تنجح في ذلك، وليس من المتوقع أن تلتزم إسرائيل بما تتمناه عليها أمريكا، فليس هناك من ضوابط على نتنياهو لا من أمريكا ولا من أوربا ولا من أحد في الداخل الإسرائيلي، ولكن الهاجس الأمريكي بدا واضحاً في محاولة انتشال إسرائيل من بين الأنقاض، وعجز الادارة الأمريكية في توفير شبكة أمان دولية تستند إليها إسرائيل في حروبها.
اليوم نتنياهو خارج نطاق اللجم ونطاق الضمانات، ومن المتوقع أن يقوم بضربة كبيرة على المنطقة وممكن أن يكون هناك ضربات قوية على المنشآت النووية الإيرانية وربما على بعض جوانبها كمناجم اليورانيوم، ضمن خطوط حمراء لا تؤثر على الانتخابات الأمريكية المقررة بعد شهر، نتنياهو يستطيع أن يفعل ما يريد بهذا الوقت المستقطع، ففي هذا المناخ الانتخابي إدارة بايدن غير قادرة على الضغط على نتنياهو لوقف إطلاق النار خشية اتهامها بالتخلي عن إسرائيل وبالتالي الخسارة الانتخابية، مع إشكالية المصوتين العرب والمسلمين ومحاولة استمالتهم، أمريكا في الموسم الانتخابي تنتهج منطقاً مزدوجاً ومتناقضاً في قضايا الشرق الأوسط، فهي تحتفظ بموقف بما يؤمن رضا إسرائيل عنها.
تدمير البرنامج النووي الإيراني (وإن كان صعب المنال) هو طموح نتنياهو ولا يتحقق الا بمباركة أمريكية، فالرقص بين إسرائيل وإيران على أرضنا وإن كانتا لا تريدان توسيع نطاق الحرب، ولكن كل طرف يريد أن يوجع الآخر، إسرائيل ماضية إلى ما لا نهاية في كسر محور المقاومة والقضاء على حزب الله بتدمير البنية التحتية لحزب الله واغتيال قياداته، ولكنها لم تنجح في إحباطه بل رفعت منسوب الانتقام بعد اغتيال نصر الله، فما الذي تستطيع إسرائيل فعله أمام هذه الجبهات المفتوحة من إيران، وهل مطلوب من إيران أن تدافع عن فلسطين ولبنان، وأن تحارب بدلاً من أصحاب الأرض.. العرب؟؟ وهم في غيابهم يعمهون!! ومن لبنان والعراق واليمن، تدور إسرائيل في حلقة مفرغة وكل حروبها القريبة والبعيدة لا هدف لها سوى الهروب من الاستحقاق الفلسطيني ولكن إلى متى؟؟؟ وبما أن الدولة العظمى حامية إسرائيل وداعمة لتشددها وإنكارها للحق الفلسطيني فإنها تدرك أن امكانيات التفاوض على دولة تبدو أمراً مستحيلاً، ولكنهم يستشعرون أن النهاية آتية لا محالة، نهاية الزمن الأمريكي والصهيوني، وهذا سبب جنونهم.